توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

من بوذا إلى ابن سينا وماركس

سمعت باسم روجيه جارودي في دمشق، صيف عام 1984، كنت أذهب كل أربعاء إلى «مقهى الهافانا»، ملتقى محبي الأدب والثقافة يومذاك. ويقع المقهى على الضلع الغربي لشارع بورسعيد، على بعد أمتار من تمثال يوسف العظمة الذي يتوسط ساحة تحمل اسمه أيضاً.
أخبرني أحد زملاء المقهى عن كتاب «ما يعد به الإسلام»، الذي صدر حديثاً، وقدم فيه جارودي الرؤية التي تبرر اختياره للإسلام، بعدما بدأ بروتستناتياً، ثم مناضلاً ومفكراً شيوعياً، ثم كاثوليكياً. أثار الكتاب فضولاً شديداً عندي، فقد وجدته - خلافاً لما اعتدت - يدعو لإسلام مفتوح، واسع الأفق، يحتمل كل الناس وكل الأفكار، من بوذا إلى غاندي وابن سينا والحلاج، وحتى كارل ماركس. والحق أني بقيت يوماً كاملاً، لا تفارق عيناي الصفحة التي نقل فيها الأبيات المنسوبة للعارف الشهير محي الدين بن عربي:

لقد صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ
فمرعَى لغزلانٍ ودير لرهبانِ
وبيت لأوثانٍ وكعبة طائف
وألواح توراةٍ ومصحف قرآن
أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجهتْ
ركائبُه فالحبُّ ديني وإيماني

وزاد في جاذبية المقاربة، أنها جاءت وسط جدل محتدم يومذاك، حول الإمكانية العلمية والعملية لتجاوز المذاهب، إلى إسلام متحرر من الانتماءات الاجتماعية والتاريخية. وفي هذا الإطار صدر أكثر من كتاب يدعم أحد الاتجاهين أو نقيضه، وأشهرها في ظني كتاب «اللا مذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية» للمرحوم محمد سعيد البوطي، الذي طبع 10 مرات خلال عقد الثمانينات وحده.
وأريد الإشارة هنا إلى أن الصراع العنيف بين النظام السوري والإسلاميين، لم ينعكس على الأعمال الثقافية، كما لم تنعكس عليه الخلافات المتكررة مع الشيوعيين، فكنت ترى الكتاب الإسلامي معروضاً في المكتبات إلى جانب الماركسي والليبرالي وغيره.
أقول إني قرأت كتاب جارودي على خلفية الجدل الذي شغل الساحة يومئذ، حول إمكانية الفصل بين الدين، وبين دوائره الاجتماعية وإطاره المرتبط بالهوية التاريخية، أو «بين الجوهري والعرضي في الأديان»، حسب تعبير المفكر المعاصر عبد الكريم سروش. في ذلك الحين، كان الميل العام ينحو لاعتبار الهوية والانتماء الاجتماعي والشكل الخارجي، لوازم للحقيقة الدينية، لأنَّها بذاتها أوامر دينية، أو لأنَّها تدعم هيمنة الدين على الحياة.
أما جارودي فرأى عالماً يواجه مشكلات، لم تفلح في علاجها الأديان والآيديولوجيات: «المسيحية والاشتراكية بمختلف أنواعها تبقى خميرة للتدافع والفرص، لكنها لم توقف سعي الغرب إلى حتفه». ولذا ظن أن رؤية كونية، تشمل كل ما أنتجه البشر وما آمنوا به، قد تكون بداية جدية للتعامل مع المشكلات الكونية من منظور كوني غير أناني. هذا يتطلب، وفق رأيه، نسخة من الإسلام أعمق مما ورثناه عن عصور التخلف والتنازع والانكماش: «إذا كنا نريد للإسلام أن يشارك في ابتكار المستقبل، فعلينا أن نحول دون اختصاره في المواقف المتصلبة والتوترات والانفلاتات التي تحجب الفكر».
أسترجع أحياناً آراء هذا الفيلسوف المناضل، وأتساءل إن كانت علاجاً لبعض أدوائنا اليوم. أعلم أنها لم تلق القبول المناسب في وقتها، لكن لعل اليوم غير الأمس. ولعله قدر الرؤى العابرة لقيود الحاضر وإلزاماته إلى شرفات المستقبل، وما ينطوي فيه من فرص وإمكانات.
أعلم أن كتاب «ما يعد به الإسلام» كان موجهاً للقارئ الأوروبي. لكني أجد فيه، وفي طروحات جارودي الأخرى، نداءً لنا من زمن غير هذا الزمن.