ليونيد بيرشيدسكي
TT

الأزمة السياسية بألمانيا تتجلى بخطى بطيئة

لا تشبه أي أزمة سياسية ألمانية حريق غابات هائلاً لا يمكن إيقافه وغير متوقع، حيث تبدأ بأوضاع تبدو متعارضة، لكنها تتحول إلى تفاوض مضجر يركز على التفاصيل، يفضي إلى حل وسط في أكثر الحالات. هذا هو الاتجاه الذي يبدو أن الأمور تسير فيه بعد انتخاب شخصيتين بارزتين من أصحاب التوجه اليساري كزعيمين للحزب الديمقراطي الاجتماعي، الذي يعد مكوناً أساسياً من مكونات الائتلاف الألماني الحاكم.
عندما ترشح كل من ساسكيا إيسكين ونوربرت والتر بورجانز لقيادة الحزب في مواجهة وزير المالية أولاف شولز وكلارا جيويتز، تحدثا عن الائتلاف بشكل انتقادي لاذع، حيث صرحت إيسكين بأنه «بلا مستقبل». وقال والتر، الذي يتبنى نهجاً أكثر حرصاً، إنه كان «مقتنعاً بشدة» بأن الحزب لا يستطيع أن يلبي مطالب الحزب الديمقراطي الاجتماعي. وربما يكون ذلك هو ما ساعدهما على الفوز في انتخابات رئاسة الحزب الذي بلغت نسبة المشاركة بها 54 في المائة فحسب.
مع ذلك لا يمنحهما فوزهما يوم السبت بأكثر من نصف الأصوات قليلاً تفويضاً بطرد الحزب المتداعي من الحكومة، حيث لا يمكن اتخاذ مثل هذا القرار المهم إلا خلال مؤتمر الحزب المزمع عقده نهاية الأسبوع الحالي. ربما يكون هناك مجال للمفاجآت، حيث من المرجح أن يصوت الحزب الديمقراطي الاجتماعي لصالح تعديل الاتفاق الخاص بالائتلاف لعام 2018.
وقد تحدث الزعيمان الجديدان يوم الأحد على شاشة التلفزيون الألماني بشأن المراجعات والتغييرات التي يودان رؤيتها. وركّز والتر بورجانز على حزمة المناخ الحكومية التي يتم مناقشتها حالياً في البرلمان، حيث يرغب في أن تكون تكلفة الكربون أكبر من التكلفة الحالية البالغة 10 يوروات (11 دولاراً) للطن مما يعني إنفاقاً أكبر لموازنة ذلك السعر بالنسبة إلى الأسر المنخفضة الدخل.
ودعت إيسكين إلى زيادة الإنفاق على البنية التحتية للتعويض عن السنوات التي شهدت تراجع الاستثمار في هذا القطاع على مستوى البلاد. وسوف يتطلب سد تلك الثغرة، التي تقدّر بأكثر من 138 مليار يورو (152 مليار دولار)، الانحراف عن سياسة الموازنة المتوازنة التي يتبعها الشريك الأكبر في الائتلاف، وهو حزب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وهي السياسة التي تشتهر باسم «الصفر الأسود».
لن تدعو القيادة الثنائية الجديدة إلى انسحاب الحزب بشكل غير مشروط من الائتلاف، فما يريده كل من والتر بورجانز وإيسكين حقاً هو محاولة الحصول على تنازلات من الاتحاد الديمقراطي المسيحي من خلال استغلال بند مراجعة لمدة عامين، والمتضمن في الاتفاق الحالي الخاص بالائتلاف. ومن غير المؤكد ما إذا كان كل من والتر بورجانز وإيسكين يستطيعان الحصول على الكثير.
على الجانب الآخر لا يتمتع الاثنان بالحضور والقبول الشعبي ولا بنفوذ داخل حزبهما، خاصة أن النخبة مكونة من رؤساء حكومات ولايات وأعضاء في البرلمان. كذلك معروف عن إيسكين أنها غير مستعدة لانتخابات مبكرة من المرجح أن يخسر فيها الحزب الديمقراطي الاجتماعي خسارة كبيرة. ويعد الانشقاق داخل صفوف الحزب في ظل مغادرة السياسيين البارزين فيه للسفينة الغارقة من الاحتمالات المخيفة بالنسبة للزعيمين الجديدين، وهو ما قد يضطرهما إلى التعامل مع ميركل برفق ولين لا يرغبان فيه.
نظرياً قد يحاول الاتحاد الديمقراطي المسيحي من جانبه إدارة حكومة أقلية رغم أن ذلك لم يكن يوماً من الأمور التي تفضلها ميركل. أيضاً من المرجح أن يأتي الحزب في المقدمة في أي انتخابات مبكرة، وربما يتشكَّل ائتلاف حاكم جديد مع حزب الخضر، مما يمثل نهاية للحزب الديمقراطي الاجتماعي.
ومع محاولة الزعيمين الجديدين للحزب الديمقراطي الاجتماعي تأمين وضع تفاوضي قوي، يفعل سياسيو الاتحاد الديمقراطي المسيحي، بداية بزعيم الحزب وزيرة الدفاع آنيغريت كرامب- كارنباور، ذلك أيضاً مع الإصرار على أن بند المراجعة لا يتضمن إعادة التفاوض على الاتفاق الخاص بالائتلاف. لا يعني ذلك أن الاتحاد الديمقراطي المسيحي لن يتفاوض، بل سوف يستهدف التهدئة، إن لم يكن لغضب إيسكين فسيكون غضب نخبة الحزب الديمقراطي الاجتماعي، والقيادات الأخرى، التي صوتت لصالح الموافقة على الاتفاق الخاص بالائتلاف العام الماضي، حيث كانت نسبة الأصوات الموافقة 66 في المائة من إجمالي نسبة المشاركة البالغة 78 في المائة.
وقد بدأ تفاوض ما وراء الستار بالفعل، وسوف يؤثر على نتيجة مؤتمر الحزب الديمقراطي الاجتماعي خلال نهاية الأسبوع الحالي. لشولز، الذي يحظى بدعم الزعيمين الجديدين كوزير دفاع، الكثير من الداعمين خاصة من بين الشخصيات النافذة، وهو لا يفضل التخلي عن سياسة الصفر الأسود. وسوف تعمل هذه المجموعة داخل الحزب على منع الحزب من التقدم بمثل هذا الطلب الذي قد يتسبب في حلّ الائتلاف. وإذا لم تنجح المقترحات الأخيرة للحزب الديمقراطي الاجتماعي في الوصول إلى غايتها، فلن يكون من المستحيل بالنسبة للاتحاد الديمقراطي المسيحي السماح بالمزيد من الإنفاق، حيث تتوقع النشرات الاقتصادية لموقع «بلومبرغ» وجود فائض في الموازنة الألمانية بنسبة واحد في المائة من المخرج الاقتصادي خلال العام الحالي.
ما يحدث للحزب الديمقراطي الاجتماعي هو مأساة، فبالكاد يتمتع زعيماه بالجاذبية اللازمة لإعادة الناخبين إلى قوة سياسية طالها الضعف وبلا توجه. مع ذلك لا يمثل ذلك مأساة بالنسبة إلى آخر حكومة برئاسة ميركل أو على الأقل ليس بعد. وأشارت المستشارة ميركل خلال خطابها أمام البرلمان الأسبوع الماضي إلى ذلك قائلة: «لقد بدأنا العمل على الكثير من الأمور، لكن لا يزال هناك المزيد». وأضافت «لهذا السبب أعتقد أن علينا العمل حتى نهاية الفترة التشريعية. أنا على استعداد لذلك، وسيكون من الرائع أن تكونوا أنتم أيضاً كذلك».
رغم ما بدا على المستشارة من إرهاق وضجر وسأم، فإنها لا تزال قادرة على الانخراط في جولة تفاوض أخيرة مع شركائها في الائتلاف لتفادي زعزعة الاستقرار الذي تفخر بأن لها فضل إرسائه وتدعيمه في ألمانيا. هناك فرصة أمام الحزب الديمقراطي الاجتماعي، وسيكون هو الطرف الأكثر عرضة للمعاناة من عواقب إضاعتها.
*بالاتفاق مع «بلومبرغ»