د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

الخبز والحريات الفردية

يُصادف الثلاثاء القادم اليوم العالمي لحقوق الإنسان. وكما نعلم فإنه من حيث المبدأ العام ونظرياً، تقريباً الجميع يعلن دفاعه عن حقوق الإنسان، رغم أن الممارسات في شتى مجالات الحياة تفضح العكس أحياناً.
وفي الحقيقة، نود مقاربة هذه المناسبة بالاستناد إلى واقع الجدل حول حقوق الإنسان في الفضاء العربي الإسلامي، وإن كنا نقر من البداية بتفاوت هذا الواقع من بلد إلى آخر.
من المهم الإشارة إلى أن طرح مسألة حقوق الإنسان بالشكل الراهن، إنما يمثل من موضوعات الحداثة الفكرية الحقوقية، ويؤرخ له من تاريخ الثورة الفرنسية لما مثله من بعد معنوي فكري، وثمرة من ثمرات الحداثة المادية التي نشرتها إنجازات الحركة العلمية من خلال الثورة الصناعية بإنجلترا. لذلك في الطور الأول من التفكير في العهد المعاصر في مسألة حقوق الإنسان، كان التركيز بشكل خاص على ما يسمى في القانون الحريات العامة، ولم ينتقل العالم بعد إلى النضال من أجل الحريات الفردية. طبعاً العلاقة بين الحريات العامة والفردية عضوية، إلى درجة أن الحريات العامة هي التي تمهد الطريق للحريات الفردية.
ما نلاحظه هو أنه لا تزال تجارب النضال من أجل حقوق الإنسان، في صراع مع هيمنة المؤسسات من أجل مكانة أفضل للفرد، والحد من حتميتها وهيمنتها التي تجعل من الفرد تابعاً، أو كما يسمى في علم الاجتماع عوناً اجتماعياً.
فالانتقال من طور الخطاب السوسيولوجي حول العون الاجتماعي، إلى خطاب الفاعل الاجتماعي، وما استوجبه ذلك من تغيير في العلاقة بين الفرد والمؤسسات الاجتماعية، لا يمكن القول إنه انتقال أصبح من المكاسب؛ بل هو في مرحلة التغيير ذاتها وبخطوات مختلفة.
بيت القصيد أننا في مجتمعاتنا ما زلنا في طور الدفاع عن مكانة أفضل للفرد، والبحث في كيفية تقليص هيمنة المؤسسات، وهو ما تزامن مع محاولات تجذير الحريات العامة التي هي حريات الجماعات، والفرد مكونها الأساسي. بمعنى آخر فكرة أن يكون الفرد قلب الفعل الاجتماعي وأساسه، فكرة تحتاج إلى زمن حتى تتغلغل في العقليات والممارسات. وأعتقد أنه تم قطع أشواط لا بأس بها رغم كل الانتكاسات الحاصلة اليوم.
من غير الموضوعية تهميش الحراك الحاصل والمستمر منذ الستينات من القرن الماضي، في مجال حقوق الإنسان في البلدان العربية، الذي شهد ازدياداً في السنوات الأخيرة؛ حيث أصبح واضحاً للجميع أن مسألة حقوق الإنسان باتت مسألة حتمية، وشرط العلاقات الدولية بين الدول الكبرى والأخرى السائرة في طريق النمو؛ بل إن التبادلات التجارية والتعامل مع المؤسسات المالية الدولية قد أصبح مشروطاً بحزمة من الاتفاقات الحقوقية في مجال حقوق الإنسان والتنمية الاجتماعية والسياسية.
ولكن في الوقت نفسه، ومن باب الموضوعية أيضاً، نرى أن الحراك في مجال حقوق الإنسان؛ وخصوصاً الدعوات التي يحملها بعض عناصر النخب العربية في خصوص الحريات الفردية، والذهاب فيها عميقاً ودون حدود، تلقى تعثرات كثيرة وقوية.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن المشكلات المعرقلة لنقاش صريح حول الحريات الفردية هي ثقافية بالأساس، وذات صلة أولاً وأخيراً بالثقافي ومبدأ الخصوصية الثقافية، ولكن نعتقد أن وزن الثقافي أقل مما نتخيل. ونفترض بشكل صريح أن المشكلات الاقتصادية وتعثر قطارات التنمية في غالبية البلدان العربية الإسلامية هو ما جعل النضال الحقوقي في مجال الحريات محفوفاً بالمصاعب وبعدم الاهتمام.
فأي رواج لدعوات الحريات الفردية، والحال أن الشعوب غارقة في مشكلات الفقر والبطالة؟
لذلك نعتبر رغم وجاهة الدعوات المنتصرة لحقوق الإنسان جملة وتفصيلاً، أن تشبث بعض المثقفين بملف الحريات الفردية، والتركيز على بعض الحقوق الصادمة ثقافياً، قد ولد مع الأسف مسافة، وجعل الشباب المحبط الذي يعاني الإكراهات الاقتصادية والأفق المسدود يشعر أن بعض النخب لا تمثله، وتتناول قضايا هي في عين العاطل عن العمل وفارغ اليدين، ترف يستفز أكثر مما يقوي شهية النقاش والحوار.
وبناء عليه نعتقد أن الخبز يقف حاجزاً حقيقياً أمام تطور ثقافة الحريات في بلداننا، وأيضاً أمام القيام بنقد قيمي ثقافي لحضارتنا. وهو ما يعني بشكل واضح جداً أن كل نهضة في مجال الحريات ومجال النقد الثقافي ستظل مرفوضة أو ضعيفة التواصلية، ما لم تجد بلداننا طريقها نحو التنمية الاقتصادية.
فالجائع لا يسمع، والمحبط لا يتحمس، والمهمش لن يكترث، وكل ما يحرص على فعله هو الاغتراب احتجاجاً. لذلك فإن حل مشكلة الخبز ومشتقاته المعاصرة بما يسمح بحياة لا تنقصها الكرامة، شرط أساسي كي تجد مشروعات التغيير الثقافي ودعم حريات الإنسان العربي من يتجاوب معها ويميل إليها.
إن هذا التحليل المادي قد يناقشه كثيرون وبمنطق فكري قوي الوجاهة، ولكن الواقع يمثل تجربة تغني الفكر، وتجعل أصحابه على بينة من الاستراتيجيات المساعدة على تبليغ الأفكار، دون أن يعني هذا أن نكف عن النضال.