ليونيد بيرشيدسكي
TT

«فيسبوك» يبدو عاجزاً أمام الروس

تصرّ الشركات المالكة لشبكات التواصل الاجتماعي على أنها تحرز تقدماً على صعيد مكافحة سوء استغلال منصاتها.
ومع ذلك، تمكن للتو اثنان من الباحثين، بالاعتماد على ميزانية متواضعة للغاية، من إظهار أن الدفاعات التي تعتمد عليها شبكات التواصل الاجتماعي يجري تجاوزها بصورة روتينية من جانب صناعة استغلالية كاملة يتركز الجزء الأكبر منها في روسيا.
وفي تقرير صادر عن مركز التميز للاتصالات الاستراتيجية التابع لحلف «الناتو»، شرح سباستيان باي ورولف فريدهايم تجربة أجرياها بين مايو (أيار) وأغسطس (آب). خلال الشهرين الأولين، أثناء وبعد مباشرة انتهاء الحملات الانتخابية المرتبطة بالبرلمان الأوروبي، استأجر الباحثان 11 «جهة لتوفير خدمات الاستغلال» من روسيا و5 أخرى أوروبية، تمكنا من الوصول إليها بسهولة عبر البحث في شبكة الإنترنت.
بعد ذلك، وفرت الشركات لهما 3530 تعليقاً، و25750 علامة إعجاب، و20 ألف مشاهدة و5100 متابع عبر «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام» و«يوتيوب»، جميعها زائفة.
وبالنظر إلى مدى الجدية التي تدعيها شبكات التواصل الاجتماعي إزاء تطهير ساحاتها من النشاطات الزائفة، جاء معدل نجاح التجربة مثيراً للصدمة.
وبعد 4 أسابيع من إعلان نتائج الدراسة، كانت الغالبية العظمى من التفاعلات الزائفة لا تزال نشطة، بل وحتى تلك التي جرى الإبلاغ عنها للمنصات لم تجرِ إزالتها في معظمها.
وتكشف الدراسة عن نقطة ضعف كبرى في أسلوب عرض شبكات التواصل الاجتماعية العملاقة لجهودها في مكافحة التزوير. على سبيل المثال، كثيراً ما يتحدث «فيسبوك» عن حجم المحتويات التي يحذفها، لكن الأمر في مجمله يبدو أشبه بعمدة مدينة يتباهى بأن 50 في المائة من طرق مدينته خالية من الحفر، لكن أحداً لا يعلم أي 50 في المائة مقصودة على وجه التحديد. والقياس المهم فيما يخص «فيسبوك» يكمن في حجم المحتوى الزائف الذي يمر خلاله.
من جانبهما، خلص باي وفريدهايم إلى أنه بمجرد مشاركة محترفين، فإن عملهم يأتي على مستوى كبير من النجاح لدرجة أنهم غالباً ما يقدمون تفاعلات تفوق الأموال التي من المقرر حصولهم عليها. وبذلك خلص الباحثان إلى أن دفاعات شبكات التواصل الاجتماعي تعمل على المستوى الأساسي للغاية، أما المحترفون فدائماً ما يكونون متقدمين بخطوة.
من جهته، يتركز الاهتمام الأكبر لـ«الناتو» بطبيعة الحال على سوء الاستغلال السياسي لشبكات التواصل الاجتماعي. وتوصل الباحثان سالفا الذكر إلى أن بعض الحسابات التي عاونت في تنفيذ بحثهما «جرى استغلالها كذلك للتفاعل عبر 721 صفحة سياسية و52 صفحة حكومية، بينها حسابات رسمية لاثنين من الرؤساء والصفحة الرسمية لحزب سياسي أوروبي وعدد من السياسيين صغار السن والمحليين في أوروبا والولايات المتحدة».
ومن التساؤلات المهمة هنا ما إذا كانت مثل هذه الجهود تنجح بالفعل، أم لا. جدير بالذكر أن إحدى الدراسات الحديثة حاولت تحديد مدى تأثير مزرعة التصيد الإلكتروني الروسية المعروفة باسم «وكالة أبحاث الإنترنت» على التوجهات السياسية الأميركية. وخلصت الدراسة إلى أن الوكالة، التي وردت الإشارة إلى موظفيها ومالكها في إطار التحقيق الذي أجراه المحقق الخاص روبرت مولر حول التدخل في انتخابات عام 2016، استخدمت الأساليب ذاتها التي يعتمد عليها باحثو القيادة الاستراتيجية بالولايات المتحدة (ستراتكوم) التابعة لـ«الناتو».
ومع هذا، توصلت الدراسة إلى أنه حتى بالنسبة للمستخدمين المتفاعلين على نحو مباشر مع الحسابات التابعة للوكالة الروسية، «لم يكن هناك تأثير كبير» على توجهاتهم السياسية، وتفاعلاتهم مع القضايا السياسية أو توجهاتهم إزاء أعضاء الحزب المعارض.
بيد أن ذلك لا يعني أن جهود استغلال شبكات التواصل الاجتماعي لأغراض سياسية، غير فاعلة. في الواقع، هناك حاجة لإجراء عدد أكبر بكثير من الأبحاث قبل الإقدام على استخلاص أي نتائج قاطعة بهذا الشأن. إلا أن الأمر الواضح الآن أن صناعة استغلال شبكات التواصل الاجتماعي موجهة بصورة أساسية نحو صور الاستغلال السياسي.
من ناحيتهما، خلص باي وفريدهايم إلى أن «ما يزيد على 90 في المائة من التفاعلات التي جرى شراؤها عبر شبكات التواصل الاجتماعي تستخدم لأغراض سياسية». ورغم أن هذه الصناعة مقرها روسيا، فإنه لا يقف خلفها عقول شريرة داخل الكرملين تسعى لقلب التكنولوجيا ضد الديمقراطية الأميركية، وإنما تتعلق بمجموعة من المهندسين الروس الماهرين الذين وجدوا أنفسهم في بلد لا يساعد على إطلاق مشروعات تجارية كبرى مثل «فيسبوك» أو «يوتيوب»، وبالتالي قرروا جني المال من خلال استغلال مثل هذه المنصات.
وفي بعض الأحيان، يتحول هذا النشاط نحو معاونة «المؤثرين» عبر الإنترنت على خداع جهات الإعلان. ويشير المعدل شديد الضآلة لحذف الفيديوهات الزائفة خلال تجربة «ستراتكوم» إلى أن شبكات التواصل الاجتماعي لا تكافح مثل هذه الانتهاكات بصرامة كافية. في الوقت ذاته، تبدو مثل هذه الحسابات الزائفة بمثابة صناديق سوداء من وجهة نظر العميل الإعلاني. وبالتالي، ربما تهدر مليارات الدولارات سنوياً (تتباين التقديرات بدرجة كبيرة) جراء نشاطات الاحتيال تلك.
من جهتها، قضت شبكات التواصل الاجتماعي وقتاً كافياً في محاولة إثبات أن جهود التنظيم الذاتي التي تبذلها ناجحة، وأخفقت في ذلك. والآن، أصبح لزاماً على الحكومات التحرك لحماية ناخبيها، وكذلك جهات الإعلان من براثن صناعة الاستغلال، ومعاقبة الشركات المسؤولة عن شبكات التواصل الاجتماعي لعجزها عن منع نشاطات الاحتيال، ومطالبتها بتحقيق مزيد من الشفافية. الآن، حسبما كتب باي وفريدهايم، فإن «البيانات أصبحت أكثر ندرة وفرصنا لإجراء أبحاث حول هذا المجال تنكمش باستمرار.
وينقل ذلك فعلياً القدرة على فهم ما يجري داخل هذه المنصات إلى الشركات المعنية بها. وثمة حاجة لفرض رقابة مستقلة وتتمتع بقدر جيد من الموارد».
وأخيراً، يتعين على صانعي السياسات إدراك أن صناعة استغلال منصات التواصل الاجتماعي لا تزدهر لأنها تعمل كسلاح في يد الكرملين، وإنما يشكل استغلال هذه المنصات كسلاح سياسي مجرد عرض جانبي لصناعة طفيلية بنيت على أوجه القصور في النموذج التجاري لشبكات التواصل الاجتماعي. وهناك حاجة كبيرة لتنظيم هذا النموذج.

- بالاتفاق مع «بلومبرغ»