سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

مفكرة الرياض... مناطيد طنطورة

رسم الرحالة للجزيرة العربية صورة واحدة... الصحراء. هاموا بها، وشغفوا بغموضها الهائل، وأحبّوا صفاء الحياة البدوية، وسحرهم تقشّف البادية. ولم يتوقّفوا عند أي شيء آخر. لقد أتوا من بلاد البحيرات، فلماذا يدهشون لمشهد بحيرة ضاربة في الرمل كأنها هبطت بمظلّة؟! وجاءوا من بلاد الجبال، فما هي أهمّية هذه السلاسل الكبرى من القمم، وهم وُلدوا في بلاد الإمبراطورية الرومانية، وقد ملّوا رؤية الآثار؟!
يتعرّف السعوديون إلى بلادهم بعيداً عن الصور النمطية. مقابل الربع الخالي الذي يسحر المخيّلات، يكتشفون الآن تنوّعات هذه المساحة شبه القارّية بأطيافها الجغرافية الهائلة ما بين البحار والجبال والسهول. والنفود والدهناء و600 ألف كيلومتر مربّع من الربع الخالي الممتد بين 4 دول، لكنهم الآن يقدّمون للعالم بلداً يزرع البنّ الأحمر في نجران، والزيتون في الغاط، ويقيم «مهرجان الشتاء» في طنطورة، ويبحث غوّاصوه عن السفن الغارقة والكنوز الضائعة في أعماق البحر، كما تروي لنا مجلّة «ترحال» بالصور المثيرة.
لست سائحاً ولا رحّالة. لكنني أعيد التعرّف إلى هذه الديار، مع الذين عرفوها مثلي من قبل، ويفاجئهم منظر المناطيد الملونة في طنطورة، وصداح ماجدة الرومي في العلا، وغناء شاكيرا في الرياض. ليست هي العصبية اللبنانية لهذه أو تلك، وإنما هو حبّ صوت الموسيقى وشجا الألحان. والجميع يسألني هنا: «ومتى فيروز عندنا؟» وأنا أنقل السؤال إليها. وليتك تدرين من يطرحه؛ الأجيال، الآباء والبنون. سوف يكون حضورك هنا أحبّ من المطر ومثل هناءة القمر. يسألني أصدقائي عن كل شيء في لبنان. يريدون عودته من أجل أن يعودوا إليه. يتساءلون؛ كيف يمكن لهذا الشعب المحتضر والمحبّ للحياة والمثقّف أن يبقى متخبّطاً في الأزمات ومحبوساً في الطرق المسدودة؟! ويسألون كيف يمكن أن يتعاطف سياسيو العالم مع لبنان، ولا يرأف به سياسيوه؟! وكيف يمضي هذا البلد زمنه معطّلاً يبحث عن رئيس جمهورية أو رئيس وزراء ثم يسقط في الانهيار المريع بسبب وزير؟!
وأنا لا أجيب. أنا لا أعرف الجواب. أقول لهم؛ أنا مع الثورة، وأعرف سلفاً أننا سوف نُهزم. لكنني معها لأنني مع شبابها وصدقها، ولأنها دون عنف وحقد وغضب وغطرسة وتعالٍ. لأنها ثورة المتواضعين والطيّبين والبسطاء. ثورة تقودها أغاني فيروز وأماني الأمّهات وعلم لبنان. ثورة طلّاب وجامعات وعمّال وأساتذة وأمّهات ومغتربين يريدون العودة إلى ديارهم، وعاطلين عن العمل لا يريدون الهجرة، وثورة ديمقراطيين يكرهون الديكتاتورية والظلم والفقر والعيش في قعر القعر. سوف يُهزمون. سوف ينكسرون أمام تعاضد الفساد وسوء الخلق وسوء التربية. سوف يقولون لهم؛ خذوا كل شيء، لكن أبقوا لنا البلد. واتركونا نعيش في بلدنا. لقد ضاقت بنا بلاد الآخرين، وسئمت اللحاق بنا من بلد إلى بلد، ومن أب إلى ولد. على الأقلّ اتركوا لنا الأرض. لا تلتهموها أيضاً.
إلى اللقاء.