يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

تدوير الشعارات والأزمات: محور إردوغان وذيوله

ثمة فوضى لا تخطئها العين السياسية، وإن غفلت عنها العيون الأخرى، الرغبوية والمؤدلجة والانتهازية، التي تبحث عن دور لصالح مواقفها الذاتية أو الحزبية، ولو على حساب مصلحة الأمن الوطني وفضيلة الاستقرار.
شاعت أقاويل كثيرة في الأسابيع الفائتة عن انفراجة في الأزمة الخليجية، باعثها في الأغلب النوايا الطيبة، والتفكير بإيجابية لا تنتمي للواقعية السياسية؛ وهو أمر متفهم مبرر تم استغلاله بعد المشاركة الرياضية من دول المقاطعة، التي كانت جزءاً من قائمة تطول من الفرص والمبادرات الإيجابية التي لم تقابل بمثلها أو أحسن منها في المجال السياسي، بل على العكس: ضخّ إعلام الشعارات والأزمات، المتمثل في قناة الجزيرة وأخواتها، إعادة تدوير للمحتوى المغلوط والعدائي ذاته، حول تباين في المواقف بين دول محور الاعتدال، بقيادة السعودية ومصر والإمارات والبحرين، يتم التعبير عنه بوسائل كثيرة، سواء محاولة عزل المملكة عن باقي الدول، أو استهداف دولة بعينها بشكل مكثّف، كما جرى مع الإمارات مؤخراً، بعد فشل التركيز على مصر والبحرين قبل ذلك، وبشكل غير أخلاقي تماماً.
الأمنيات لا يمكن أن تغيّر الواقع، ولذلك جزء كبير من الفوضى والارتباك لدى بعض المدفوعين بالنوايا الطيبة هو مبني على خطأ في التصوّر السياسي وتقييم الموقف، فقرار المقاطعة لم يكن اعتباطياً، بل جاء في لحظة شكّل فيها مسألة وجود أو عدم، نكون أو لا نكون، بعد أن تغوّل محور رعاية الميليشيات والمعارضات المقوضة لاستقرار الدول في استهداف دول المنطقة؛ هذا المحور الذي له رأسان وذيول كثيرة، دول وجماعات ومنظمات إرهابية: نظام الملالي من جهة، ونظام إردوغان. وكلاهما لا يعبّر بالضرورة عن الموقف من إيران الدولة أو تركيا. الموقف مبني على نظام سياسي اختار مشروعاً توسعياً تدميرياً، بعد أن فشل في إدارة شأنه الداخلي، وأصبح يستثمر في الخرائب في مناطق التوتر، من سوريا والعراق إلى لبنان، ثم اليمن، وليبيا التي نرى اليوم كيف يسعى محور إردوغان بعد انكسارات نظام الملالي في طهران إلى أخذ المبادرة في الذهاب بعيداً خارج الحدود، بعد أن فشل في السودان وفي أجزاء من أفريقيا، على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي والدول الكبرى التي تعاني أيضاً من حالة الانكفاء على مستوى السياسات الخارجية مدفوعة بتحديات كبيرة، سواء على صعيد مفهوم الدولة والتجاذبات بين الأطراف السياسية، أو على مستوى الجانب الاقتصادي الذي بات يشكّل سياسات الدولة بشكل غير مسبوق، فتدفع القائمين على السلطة إلى الصمت واللامبالاة تجاه انتهاكات من هذا النوع بسبب مصالح اقتصادية. فالمجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة، في حالة انقسام وارتباك يتعاظم. وفي الجانب الآخر، كثير من المنظمات التي ترفع شعار الحقوق تعيش حالة ازدواجية وتحيّز واضح في مواقفها من الدول، حتى باتت لا تحظى بأي مصداقية، ليس على مستوى «القيم» بل على مستوى «القيمة»، أو مستوى تنزيلها على واقع الدول.
محور الملالي وإردوغان وذيولهما ليس مجرد تحالف سياسي قائم على المصالح التي تسعى كل الدول إلى اقتناصها في سياساتها الخارجية، لكنه مشروع توسعي يعبر عن رغبة في الهيمنة عبر تقويض استقرار الدول، من خلال دعم الميليشيات والتنظيمات الإرهابية، أو عبر رعاية المعارضات السياسية التقويضية. محور إردوغان تشكل بعد صعود الإسلام السياسي وجماعة الإخوان، كأحد أكبر الكتل السياسية الفاعلة، وبرغبة غربية آنذاك في إعطائه الفرصة، واستبدال من وصفوا بالمعتدلين بالأنظمة السياسية في مشروع الشرق الأوسط الكبير، ثم زلزال الربيع العربي الذي لم يكن سوى محاولة تمكين لهذا الصعود، حتى لو كانت شرارة البدء بسبب احتجاجات مشروعة تم تصعيدها، ليس لإسقاط الأنظمة بل انهيار الدول ومؤسساتها، وتكرار مأساة العراق دون تدخل خارجي، ولأسباب ما زال عقلاء الغرب يشعرون بالخجل منها.
وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في 2002، وخلال عشر سنوات تم عقد أكثر من 70 اجتماعاً ثنائياً رفيع المستوى مع النظام القطري، وظلت الدوحة الوجهة الأكثر شعبية للدبلوماسية التركية ولأقطاب الإسلام السياسي من كل العالم، وصولاً إلى شخصيات على قائمة الإرهاب. زارها إردوغان سبع مرات، وكانت محطته الأولى بعد توليه الرئاسة، وهو ما أشار إلى أن ثمة ما يتجاوز العلاقات السياسية إلى الالتزام الآيديولوجي الذي انعكس في مشاريع ضخمة مصرفية وإعلامية، وتبادل لرموز وقيادات الإسلام السياسي، كان الأمر أشبه بتحالف الشعارات الفارغة مع الخزائن الممتلئة لدعم مشروع الإسلام السياسي ومنظماته وتنظيماته، حتى المارقة منها، من «القاعدة» إلى «جبهة النصرة»، وتكوين كتل فاعلة من مخرجات الإسلام السياسي في الدول الغربية، ودعم النظائر والأشباه في دول المغرب العربي، مع دعم غير منطقي لشخصيات في الخليج شكّل دون مبالغة ما يشبه الاقتصاد الموازي والمستقل لمشروعاتهم الآيديولوجية، وكان جزءاً من نجاح هذا التحالف الذي بلغ حد التآمر في مراحل منه تلكؤ الإدارة الأميركية -لديها أهم قاعدتين عسكرتين في تركيا وقطر (قاعدة إنجرليك والعديد)- بمحاسبة تجاوزات هذا المحور في مسألة الإرهاب التي كانت موثقة في كل البلدان التي مستها نيران الربيع العربي، أو تلك التي كانت مهددة بموجة مفتعلة رقمية من الثورات، كما هو الحال في الخليج. وفي ليبيا أيضاً، حيث كان الثوار المنضوون تحت تنظيمات إرهابية يرفعون علم قطر، مستبدلين اسمها بأحد شوارع العاصمة.
والحال أن هذه المحاور رغم كل الأزمات التي تحدق بها الآن، سواء بسبب التحولات التي يعيشها نظام الملالي أو تزايد هوس الهيمنة الإردوغاني، وانعكاسات ذلك على صلابة دول المقاطعة وتمسكّها بحقها الوجودي في التصدي لكل ما يمسّ أمنها، ما زالت تسعى في الاستثمار في إعادة الكرّة، رغم فقدانها المشروعية والشرعية ورأس المال الرمزي المتمثل في انكسارات الإسلام السياسي، وتشظيات جماعاته، ومنها الجماعة الأم (الإخوان). كما أن الوعي الجمعي للدول أو المجتمعات في دول الاعتدال بات رافضاً لهذه المشاريع الآيديولوجية، بل هناك أيضاً وعي دولي يتعاظم تجاه مسألة الإرهاب والتطرف، لأنه بات حرب الجميع ضد الجميع، ولا يمكن أن يتم الاهتمام بظاهرة الإرهاب والتطرف والذئاب المنفردة والأقليات المتأزمة دون أن يولد السؤال عن الجذوة التي تسببت في بقاء العالم مشتعلاً!