خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

تجارة ويا ويلها من تجارة!

العراق هو الممر الطبيعي للتجارة بين إيران والبحر الأبيض المتوسط. عاش عليه كثير من التجار العراقيين. وكان من أبرزهم السيد حسين بن السيد بهاء الدين. لم تكن السيارات قد دخلت العراق في أوائل العشرينات. كانوا ينقلون بضائعهم على ظهور الجمال مروراً من دمشق إلى كركوك ثم عبر منطقة كردستان. وجدت في هذه المنطقة قرى تسكنها طائفة متطرفة من الجعفرية عرفت باسم «العليلاهية». أجمع بقية المسلمين على عدم الاعتراف بهم. وكانت هذه القرى تتعيش من السلب والنهب.
في إحدى سفرات السيد حسين التجارية هذه وكان ينقل الحرائر الدمشقية والصابون النابلسي وزيت الزيتون ونحو ذلك، خرج عليه القوم وسلبوا أمواله وإبله واقتادوه أسيراً إلى مختار القرية. رفع السيد حسين يديه إلى السماء داعياً سبحانه وتعالى أن ينتقم من هؤلاء الناس الذين لا يرعون حرمة السادة من الذرية النبوية الشريفة. استمع المختار لكلماته فتوجه إليه وسأله: ماذا تقول؟ من ذرية رسول الله؟ فقال له التاجر: نعم. ألا تعلم بأنني سيد شريف صحيح النسب ومن ذرية الإمام الحسين. ثم أخرج للمختار أوراقه التي تدل على ذلك.
فما كان من المختار إلا أن ركع وراح يتبارك بذيول ثيابه ويقبل يديه ويطلب المغفرة. «تعالوا يا أولاد وبوسوا يد السيد وتباركوا به». قضى السيد حسين نحو نصف ساعة ماداً يده والناس يقبلونها ويتباركون بها. أصروا عليه أن يقضي الليلة عندهم ويتعشى معهم. وكانت وليمة فاخرة شارك فيها كل سكان القرية. اكتشف عند الصباح أن اللحم اللذيذ الذي أكله معهم كان لحم أحد أباعره. ذبحوه وطبخوه وأكلوه. ثم ودعوه عند الصباح بكل إجلال واحترام. رتبوا معه أن يمر بقريتهم في كل رحلة يقوم بها.
لم تثنه التجربة عن تجارته. وفي كل مرة كان يقف عندهم ويقضي الليلة معهم. توثقت علاقته معهم ومع السقا عباس الساقي الذي يبيع الماء لبيوتهم.
كان السيد حسين غارقاً في النوم، عندما جاءه الساقي عباس سراً وأيقظه بخفة وصمت: «اقعد سيدنا. اجمع بضاعتك وحملها على الجمال وانهزم قبل ما يصحون من النوم».
ما هذا، وكيف، ولماذا؟ ولكن الساقي همس في أذنه: «اسمع! إن أهل القرية قرروا قتلك. فقريتهم هي القرية الوحيدة في المنطقة التي لا يوجد فيها ضريح لسيد من آل البيت. وهذا يضطر أهلها عند المناسبات الدينية أن يذهبوا إلى القرية المجاورة التي يوجد فيها مقام ضريح لإمام. وذلك للتبرك به وطلب الثواب. وهي قرية معادية لهم». رأى المختار أن هذه فرصة مناسبة، أن يذبحوا السيد حسين ويدفنوه ويقيموا مقاماً عليه بقبة أعلى من قبة ضريح القرية المجاورة. يكون عندهم ضريح رجل شريف من ذرية النبي يتباركون به يقضي لهم حاجاتهم.
أسرع السيد حسين بن السيد بهاء الدين إلى تحميل بضائعه على جماله وانطلق هاربا، والقوم ما زالوا غارقين في النوم. وكان ذلك آخر عهد لهذا التاجر العراقي في معاودة هذا الخط التجاري بين دمشق وكرمنشاه. وبقيت القرية بدون ضريح إلى يومنا هذا.