خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

مشكلتي مع الولائم

دُعيت مؤخراً إلى وليمة إخوانية، حركت في نفسي ذكريات شتى الولائم التي خضتها عبر الأعوام الماضية. وأقول خضتها لأن كل وليمة منها كانت بمثابة معركة. فمن معاناتي في الولائم الكبرى أنني لا أستطيع أن أحافظ على منديل الطعام في مكانه على حضني، كما تقتضي الأصول.
لا أكاد أضعه فوق سروالي، حتى يسقط على الأرض، مما حدا بي إلى الاعتقاد بأن هناك عداوة قديمة بين سروالي ومناديلي. الحقيقة أنني نشأت في بيت كنا نأكل فيه على الأرض ومن الصينية. لا مناديل ولا سراويل. نسمي بسم الله، وننزل قصفاً بالرز والباميا، وكأنها عدو لنا معه ثارات قديمة.
استعمال مناديل الطعام عادة غربية. يظهر أن نفسيتي لم تنسجم معها. لا أتكلف وأضعها على حضني وصدري حتى ترتجف رجلاي وترميا بها أرضاً. جلست أمام المائدة بين سيدتين عربيتين مسلمتين محافظتين. لم تمض دقيقتان حتى سقط منديلي على الأرض. وعندما فكرت في التقاطه لاحت أمامي فوراً أطياف حادثة أليمة وقعت لي في السنين الخوالي بصدد ذلك.
كنت عندئذ تلميذاً في «كلية تشيلسي للفنون»، ودعاني أستاذي الفاضل دونالد كوكسن، إلى وليمة عشاء في بيته. وأجلسني بجانب زوجته النحاتة سوزي. وكانت نسوة ذلك الزمان يلبسن فساتين وتنورات طويلة. ليس مثل بنات هذا الزمان اللواتي يلبسن في الغرب تنورات لا يزيد حجمها عن ورقة التين. وفي أثناء الأكل والحديث، سقط منديلي إلى الأرض مرتين. وفي كل مرة كنت أتنحى عن مقعدي وأجري وراءه، وأخبط بين سراويل وفساتين الجالسين والجالسات وأحذيتهم، لأعثر عليه، وأعيده إلى مكانه في حضني. وزيادة في البلوى أنني كنت لا أكتفي بإسقاط المنديل، وإنما أتبع ذلك بعد قليل برفسه بقدمي بعيداً، بحيث يصبح في الجانب المقابل بين أرجل الآخرين.
أعدت المنديل لمكانه. ولكنني لم أزدرد ملعقة واحدة من الشوربة، حتى سقط إلى الأرض للمرة الثالثة، وكأن قوة جاذبية جبارة هناك تسحبه نحوها. حرت في أمري في هذه المرة، وقلت لنفسي لا شك أنهم الآن سيصلون لهذه النتيجة، وهي أن العرب ناس متوحشون لا يعرفون حتى أين يضعون مناديل الأكل. قررت أن أسلك بأناة وخفية، وألتقط المنديل من الأرض. باشرت بالعملية، ولكن المنديل اللعين أصبح مسحوراً بسحر عجيب. فلم تعد له بداية ولا نهاية. أسحب به ولا أصل إلى نهايته. وفي الأخير أخذ يتمرد عليّ ويأبى إطاعة يدي كلياً. بل أخذ يتقهقر بقوة إلى الخلف. عجبت من أمره، فجررت به جرة قوية.
هنا عاجلتني السيدة كوكسن بنظرة مؤنبة، وهمست في أذني: «أرجوك خالد! أمام زوجي»؟!
ما كنت أسحبه في الواقع إلى الأعلى، لم يكن منديلي، وإنما تنورة السيدة المضيفة. تراءت لي تلك الحادثة وأنا جالس بين هاتين السيدتين العربيتين المحافظتين! ما الذي سيحدث لو أوقعني الشيطان بالمقلب نفسه. لا شك أن إحداهما سترد لطمة داوية لي. هكذا رحت أتناول طعامي وأنا في حرب أعصاب. قابضاً باليد اليمنى على الملعقة، وباليد اليسرى على المنديل، ولساني تارة يزدرد اللقمة، وتارة يتعوذ من الشيطان. ولم أجد مخلصاً في الأخير، غير أن آتي بزوجتي في أي وليمة قادمة وأجلسها بجانبي. فإذا حدث ووقع المكروه، وسحبت تنورتها، فلي عليها حقوق، وهي حلالي وزوجتي.