خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الفأر والعلماء

لست من عشاق الحيوانات ولا من المنشغلين بحقوقها. بيد أنني أجد نفسي مضطراً للدفاع عن حقوق الفئران والاحتجاج ضد هذا الاستغلال لجهودها. منذ أن تعلمت القراءة والكتابة، وأنا أقرأ عن كل هذه الاكتشافات الطبية والعلمية التي جرت بتجربتها على الفئران. لا أدري ما الذي جعل العلماء يختارون الفئران بالذات دون سائر الحيوانات؟ لماذا لا يجرونها على الأسود والنمور مثلاً؟ هذا أمر يدل على جبن واستغلال للضعفاء يذكرني بما قاله المعري أثناء مرضه. وصفوا له أكل فرخة. فقال: وصفوك لأنك ضعيفة. ولو أحسنوا لوصفوا لي شبل الأسد. فرفض أكلها.
آخر ما سمعته من تجارب على الفئران تجربة جرت في أميركا. وهذا مفهوم ومتوقع، فهي البلد الذي اعتاد على استغلال الضعفاء. والتجربة تعلقت بأسرار عملية الحب. وهذا غير مفهوم ولا متوقع. ليس لمجرد أن المجتمع الأميركي المادي لا يعرف الحب وإنما لأن العلماء هناك - كما يبدو لي - اعتقدوا بأن مجنون ليلى وروميو وجولييت كانوا من فصيلة الفئران. وإلا فمن قال لهم إن الفأر يقع في الحب كما نقع نحن؟
تبين من نتائج هذه التجربة التي نشرتها مجلة «نيو ساينتست» أن الفأرة الأم عندما تلد ابنها الصغير يحمل على بدنه مادة الفيرومون التي تشمها الأم فينبعث في دماغها تيار كهربائي يثير في نفسها محبة ابنها الصغير فتحنو عليه. وا أسفاه! ماتت والدتي رحمها الله قبل أن أستطيع أن أقول لها ذلك، وأشرح لها لماذا كانت تفضل أخي إحسان عليّ. لقد كان أغزر مني بالفيرومون!
تنطوي التجربة على انتهاك مريع لحقوق الفأرة وحرمتها. إنها وهي في غمرة المخاض والوضع والأمومة والرضاعة، يأتي هذا العالم الأميركي الغليظ القلب ويتفرج عليها ويهتك سترها وخفرها.
لا أدري ما الجوائز التي سيعطونها لمكتشف الفيرومون. ربما يرشحونه لجائزة نوبل في الغرام. وهنا ظلم آخر يحيق بعالم الفئران. فلو تأملنا قليلاً لوجدنا أن الفأر هو الذي كشف لنا عن هذه المادة. يقتضي المنطق في رأيي إعطاء جائزة نوبل للفأر المعني بالتجربة، وليس للعالم الذي لم يتجاوز دوره دور المتفرج. ولكن ما العمل؟ البشر لا يحترمون العدالة فيما بينهم، فمن أين لي أن أتوقع ذلك منهم بالنسبة للفئران؟
إذا لم يكن في الأمر بدّ، فلماذا لا يجرون هذه التجربة الغرامية في موضوع أهم؟ ما الذي يجعل بعض الشعوب تتعلق بمسؤوليها المستبدين؟ هل هناك مادة فيرومون على شوارب المسؤول المستبد، فتجعل الناس يحبونه رغم كل ما يحيق بهم من أهوال وو جوع؟ هذا موضوع جدير بتجربته على الفئران. ولكن المشكلة هي أن الفئران أعقل من البشر. فلا يوجد بينها ديكتاتور، ولا تسمح بقيام نظام ديكتاتوري في جحورها التي تدار بديمقراطية كاملة لم يذق مثلها معظم بلدان الشرق الأوسط. بالطبع من الممكن للعلماء أن يدسوا فأراً ديكتاتوراً بين الفئران ويعلموه الديكتاتورية، ثم يجرون عليه ما يلزم من تجارب. ولكن هذا شيء يقشعر منه البدن. بعد ملايين السنين من البراءة، نأتي نحن ونعلم الفئران أساليبنا البغيضة.