خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

مشكلة الوفود في الأمم المتحدة

حدثني أحد أصدقائي ممن خدموا ضمن الوفد العراقي في الأمم المتحدة، فقال إنه عندما كان ضمن الوفد لمس تماماً مدى التضحية التي دأب أعضاء الوفود على تقديمها خدمة لأمتهم. فمن أقسى صور المعاناة والعذاب الجلوس لساعات طويلة وسماع كل تلك الخطب والمناقشات العقيمة. استطاع بعضهم تفادي المشكلة بربط سماعاتهم؛ لا بقنوات الترجمة وإنما براديوهات صغيرة في جيوبهم. يجلسون فيستمعون إلى الموسيقى والأغاني، فريد الأطرش وأم كلثوم مثلاً، والخطباء يتكلمون ويتصورون أن المندوبين المحترمين يستمعون إليهم.
بيد أن المشكلة الأكبر من ذلك كانت مشكلة النوم، كما قال. وهو شيء لا بد أن ينتهي الإنسان له بعد خمس دقائق من سماع أم كلثوم. هذه هي المشكلة الأساسية التي كان يواجهها أعضاء الوفود. كيف يستطيعون النوم أثناء المناقشات والخطب المملة دون أن يكتشفهم أحد أو تفضحهم الكاميرات. اهتدوا إلى فكرة لبس النظارات المعتمة بحيث لا تظهر أعينهم للآخرين. تسألهم: خير إن شاء الله، لابس نظارات سوداء هذا اليوم؟ فيجيبك الرجل بأنه يعاني من احتقان في عينيه ونصحه الطبيب بأن يتفادى الضوء القوي بلبس نظارة سوداء!
سرعان ما شاع ذلك في جوانب القاعة بحيث أصبح المنظرون أكثر من المفتحين. ولتفادي هذه الفضيحة الجديدة، عمد الأذكياء منهم إلى الهرب للطابق الأعلى من مقر الأمم المتحدة، حيث كانت هناك غرفة اعتاد رجال الإطفائية الأميركان على الهروب إليها ليلعبوا البوكر أثناء خفاراتهم، واثقين بأن أعضاء الوفود الدولية غير قادرين حتى على إضرام النار في بنايتهم. اكتشف أعضاء الوفد العراقي ذلك فراحوا يتسللون إليها ويقضون وقتهم في لعب البوكر مع الإطفائية. وهي العلاقة الوحيدة التي استطاعوا أن يقيموها مع أحد من الشعب الأميركي خلال السنوات الطويلة من عملهم في نيويورك.
اكتشف آخرون من الوفود العربية ذلك، فراحوا يقتدون بسلوك إخوانهم العراقيين من منطلق الوحدة العربية التي كانت أفكارها ما زالت حية عندئذ. راح السوري يسلف العراقي والعراقي يسلف اللبناني من باب الأخوة والتضامن العربي ليتواصل اللعب ولا يضطر أحدهم للنزول إلى قاعة الجمعية العامة وسماع كل ذلك الهراء الذي يهدر في جوانب القاعة عن السلام العالمي وحل مشاكل الشرق الأوسط حلاً عادلاً. بعد أيام قليلة، أخذت تظهر في غرفة القمار وجوه جديدة؛ وجوه صينية وكورية وهندية وأفريقية. تجرأ البعض فجاءوا بصديقاتهم معهم. أصبحت غرفة القمار تضم من أعضاء الوفود أكثر مما يوجد في قاعة الجمعية العامة، لا سيما عندما يكون موضوع المناقشة مشكلة فلسطين والاعتداءات الإسرائيلية. تضايق الإطفائية الأميركان من هذه الحالة. بالطبع لم يكن بإمكانهم منع المنظمة من مناقشة موضوع فلسطين والتسبب في كل هذا الزحام على طاولات البوكر. فجلسوا يوماً وتناقشوا في الموضوع واتخذوا قراراً في الأمر. وهو حصر عضوية غرفة القمار بالأعضاء الأصليين وعدم قبول أي عضو جديد ما لم يمت أحد من الأعضاء القدامى.
مضى صديقي فأضاف وقال إن من حسن الصدف أن كل الأعضاء القدامى كانوا من الوفود العربية. وهو إنجاز لم يحققوا مثله طوال وجودهم في المنظمة الدولية. وقد التزم الإطفائية التزاماً تاماً بتطبيق ذلك القرار، وكان كما أرى الآن، القرار الوحيد الذي اتخذ في الأمم المتحدة وجرى تطبيقه فعلاً.