TT

قاسم سليماني القنبلة العنقودية

الرجل الشحنة التي تتدلى في غصن متحرك، حبات متعددة الألوان وقوة التفجير. اسمه كتاب الدلات صفحاته كتبت بحبر بعضه سري وآخر مجهول اللون. كان موته ورقة من ذات الكتاب. تفجيره في فجر يوم غامض في بغداد، وفي بغداد ألف ليلة وليلة تغيب كي تعود عطراً ومخامل ودماء. قاسم سليماني القادم ليلاً من دمشق وفي استقباله شخصية عراقية ذات حضور وظل يمتد من العراق إلى إيران أيضاً هو أبو مهدي المهندس قائد «الحشد الشعبي» عملياً.
بعض الأشخاص يتم ترميزهم في أحاديث وحكايات تدخلهم في دنيا الأسطورة حيث تكون عجينة خاصة تصنع منها مفارقات تتحرك على الأرض وفي الخيال أيضاً. الجنرال الإيراني قائد «فيلق القدس» الذي لا يوجد في مكان ولا يخلو منه مكان كما صورته آلة الترميز، قائد قوة عنوانها «القدس» التي لم يرها ولم يكن له فيها نفس ولا أنفاس، كان المهندس المدني لتنفيد خريطة بناء رسمها مهندسها المعماري في الدستور الإيراني التي يراد بناؤها في المجال الحيوي للثورة الإيرانية في الشرق العربي، ورسم خطوطها رفسنجاني في كتابه «العروة الوثقى». عندما تختلط الآيديولوجيا المتصلبة بقوة السلاح تتحول إلى شحنة عنقودية متعددة الانفجار في أماكن وأوقات مفتوحة على الجغرافيا والأهداف، والمنفذ كائن مركب يتحرك بغرائز فيها شيء من تكوينه الأولي وشحنات من سيده العقائدي الذي يجاهد لنيل رضاه المقدس. كان دور سليماني في الحرب العراقية الإيرانية، الحبل الذي ربطه بقادة بلاده، استمرأ المغامرة ولذة الرضا الآياتي. من شاب بسيط فقير كادح لم ينل حظه من التعليم إلى آمر يتحكم فمه في إصدار الأمر إلى قوات عبر حدود عدد من الدول، ويده في صرف الملايين، وسار في أنفاق مظلمة للتواصل مع قوى شحنت رؤوسها بشعارات امتزج فيها التاريخ بالعقيدة وأهداف كتبت بحروف من خيال وأحلام. أسماء كثيرة عرفها التاريخ عاشت في ظلام التجسس والمخابرات والمغامرات، عاشت في دنيا خاصة صُنعت لها ولكنها خلقت تجويفات ذاتية شدت إليها مكونات أولية في تلك الشخصيات .
الجنرال قاسم سليماني، المقاتل والقائد الأسطوري الذي كان الفاعل الأساسي في العراق وسوريا ولبنان واليمن، رسم الخطط وأشرف على تنفيذها في هذه الأقطار كشخصية رسولية تنفذ المهمة المقدسة التي كُتبت في الدستور الإيراني بهدف التمكين لفكر الثورة الإيرانية ووجودها السياسي والعسكري والاقتصادي، كانت حياته ومماته مكوناً واحداً، تفجير حبات عنقود كبير يتدلى عابرا لمكان .
مات في تفجيرأشعل الدنيا إعلامياً وسياسياً وأمنياً، تناقلت وسائل الإعلام في كل أنحاء العالم الخبر، وتسابق المحللون يقرأون ما بعد الحدث. الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي غادر البيت الأبيض للاستجمام بمناسبة رأس السنة، أعطى الكثير من وقته ليصرح ويكتب عن قراره بقتل الجنرال سليماني، وانقسم الكونغرس الأميركي حول ذاك القرار بين مؤيد ومعارض ومتحفظ ، أما إيران فقد أطلقت مبكراً مدافعها السياسية والإعلامية مهددة بالانتقام المزلزل لقتل رجلها الأسطوري. في العراق لا تتوقف حبات العنقود المتفجر عن التداعي الساخن شعبياً وسياسياً وترتفع بعض الأصوات التي تطالب الأميركيين بمغادرة البلاد التي لا حكومة فيها تمتلك القرار، أما في لبنان فقد ظهر حسن نصر الله في خطاب طويل لم يخلُ من استدعاء ساخن اختلط فيه الوعد والوعيد بالتاريخ والدين وتقديم الوجه الآخر للجنرال الأسطورة سليماني الذي احتضن أمنيته الأولى وهي الشهادة التي لم تفارق قلبه وعقله يوماً. توعد نصر الله بالثأر للقتيل الذي لن يكون إلا بمغادرة القوات الأميركية لكل منطقة الشرق الاوسط، أما «أنصار الله» في اليمن لم يغب صوتهم المرتقع من أجل الثأر لقائدهم قاسم سليماني .
مراسم الجنازة لسليماني انطلقت من العراق وسط حشد كبير من المودعين اختلط فيه كل شيء بكل شيء، ومن هناك نقل الجثمان إلى مدن إيرانية التي هبّت آلافها تتدافع حول الجثمان ووراءه وهي تصرخ من أجل الثأر. حبات العنقود لن تتوقف عن الانفجار والتفجير وإن رحل عرجونها. السؤال الآن، ما هو الانفجار الأخير والكبير الذي ستشهده الايام المقبلة؟ مبارزة البنغ بونغ القادمة ستكون بين الولايات المتحدة وجمهورية إيران الأسلامية بكرة متفجرة. الرئيس الأميركي دونالد ترمب دخل معركته الكبرى وهي انتخابات هذه السنة، ولن يقبل بأي عمل من إيران يطال عسكرياً أو مواطناً أميركياً. لقد كان دافعه الأساسي لقتل سليماني المعلومات الاستخباراتية التي تؤكد أن قدومه إلى بغداد كان من أجل تحريك مجموعات موالية لإيران لاحتلال السفارة الأميركية، وللسفارات الأميركية تاريخ مع الانتخالات الرئاسية.
في سنة 1979 احتل الطلاب الإيرانيون السفارة بطهران واحتجزوا دبلوماسيين أميركيين، وكان ذلك أحد أسباب خسارة الرئيس جيمي كارتر للانتخابات، وكذلك الهجوم سنة 2012 على القنصلية الأميركية ببنغازي ومقتل السفير كان له أثره على المرشحة هيلاري كلينتون.
في إيران، لم يمضِ وقت على تراجع مظاهرات الغضب العنيف الذي شهدته البلاد، جاء مقتل سليماني ليفجر حالة تجمع الرأي العام وتشغله، المرشد الأعلى رفع سقف الوعيد بالانتقام وتعالت التهديدات بالحرب على القوات الأميركية في كل مكان. إذن المعركة قادمة لا محالة بين الطرفين. لقد حدد ترمب بنك الأهداف التي سيضربها في إيران إذا قامت بعمل ضد أميركا وهي خمسون هدفاً، ولكن إيران أين ستضرب؟ هل القواعد الأميركية في المنطقة أم غلق باب المندب أم الناقلات النفطية وأهداف مدنية في بعض دول الشرق الأوسط؟
هل يكون الانفجار الأخير للعرجون الأسطوري سليماني في داخل إيران نفسها وهو ميت بعد أن فجَّر بقعاً كثيرة خارجها وهو حي؟!
مشروع المجال الطائفي الحيوي لإيران ذاته أمام مصير حقيقي، فقد كان ذراعه وحواسه وعقله الجنرال قاسم سليماني. قضى سنوات في الغوص في كل الأجسام السياسية والمسلحة، وعرف الكبار والصغار وصار له مريدوه المرتبطون به شخصياً، كان عسكرياً وسياسياً وآيديولوجياً ومصمم شفرة الخريطة الإيرانية الحركية في المنطقة، ولن يعوضه بسهولة خليفته الجنرال اسماعيل قآاني. ردّ الفعل الأميركي وحجمه ومداه يتوقف على الفعل الإيراني حيث سيكون انفجار الجنرال قاسم سليماني الأخير.