تيريز رافائيل
TT

خطة كامنغز «الغريبة» لحكم بريطانيا

لا يعد دومينيك كامنغز، كبير مستشاري رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، أول شخص يدّعي أن الحكومة البريطانية معرّضة لاختلالات كبيرة. في الواقع، مثل هذه الأفكار تقوم عليها صناعة كاملة من الاستشاريين والأكاديميين والسياسيين الذين يركزون كامل جهدهم على تحديث الدولة. إلا أن قليلين للغاية يفكرون بالصورة شديدة الراديكالية التي يبديها كامنغز في هذا السياق.
جدير بالذكر أن كامنغز كان العقل المدبّر وراء إدارة حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي في أثناء استفتاء 2016 الناجح، وكذلك حملة جونسون للفوز برئاسة حزب المحافظين. كما تشير جميع التقارير الإخبارية إلى أنه يقف وراء قرار جونسون تجميد عمل البرلمان أواخر العام الماضي. وتمخضت هذه المعركة نهاية الأمر عن انتخابات 12 ديسمبر (كانون الأول)، التي جاءت بمثابة مشهد النهاية الدرامي لعام مشحون بالأحداث والأزمات السياسية المرتبطة بـ«بريكست».
اللافت أن كامنغز أقدم، مؤخراً، على فعل غير تقليدي بكتابته منشور عبر مدونته في 3000 كلمة دعا خلاله «أصحاب الشخصيات الغريبة والمهارات اللافتة» - وكذلك آخرين مثل العلماء المعنيين بالبيانات ومطوري البرامج وخبراء الاقتصاد ومديري المشروعات - للتقدم لشغل مناصب حكومية. وكتب يقول: «إذا رغبتَ في التكهن بما يمكن للمحيطين ببوتين فعله، أو كيف يمكن للعصابات الإجرامية العالمية استغلال ثغرات في إجراءات الأمن على حدودنا، فأنت لست بحاجة إلى مزيد من خريجي الجامعات الإنجليزية العريقة الذين يشاركون في مآدب العشاء مع منتجي برامج تلفزيونية وينشرون أخباراً زائفة.. حول الأخبار الزائفة نفسها».
الأغرب من ذلك، كانت متطلباته في المساعد الفني له، ذلك أنه حذّر من أنه: «لن يكون لديه وقت لحياة شخصية. وسوف ألقي بك في سلة المهملات في غضون أسابيع إذا لم تكن ملائماً للوظيفة. لا تشتكِ بعد ذلك لأنني حذرتك». في الواقع، هذه النبرة الغاضبة من المحتمل أن يكون لها دور كبير في أن يتحول لألد أعداء نفسه في إطار المهمة الأقرب إلى قلبه: تفكيك وإعادة صياغة الدولة البريطانية (والواضح أن «بريكست» وسيلة للوصول إلى هذه الغاية، من وجهة نظره).
الحقيقة أن كامنغز ليس مخطئاً في اعتقاده بحاجة الحكومة إلى العمل على نحو أكثر ذكاءً، خصوصاً أنه مع خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي وتحركها نحو صياغة شكل وضعها الجديد على الخريطة العالمية، فإن موظفي الحكومة البريطانية سيتحملون كثيراً من المهام التي كانت من قبل من اختصاص بروكسل؛ من صياغة السياسات الزراعية والتجارية، وصولاً إلى إقرار قدر هائل من التنظيمات. وحتى الالتزام بالهدف البريطاني المتمثل في الوصول بالانبعاثات الكربونية إلى مستوى الصفر بحلول عام 2050 سيتطلب مجهوداً هائلاً عبر جميع المؤسسات العامة.
كما أن هناك ضغوطاً على حكومة المحافظين الجديدة بقيادة جونسون للحفاظ على ائتلاف عجيب من الناخبين - أنصار تقليديون لحزب المحافظين من أبناء الطبقة المتوسطة وناخبون مؤيدون سابقاً لحزب العمال من الطبقة العاملة أسهموا في النصر الانتخابي الذي تحقق الشهر الماضي. وسيتطلب ذلك تقديم مكاسب ملموسة لكلا الجانبين في وقت قصير.
ويمكن لكامنغز تحقيق مكسب سريع من خلال البدء بتيسير عمل الوزارات وجعله سلساً وخلق مهام جديدة في إطاره. ويبدو أنه يميل لفكرة استحداث وزارة لشؤون الاتحاد لمنح صوت أكبر للعناصر الأربعة المكوِّنة للمملكة المتحدة: إنجلترا واسكوتلندا وويلز وآيرلندا الشمالية. ويبدو هذا مناسباً تماماً الآن في ظل التوتر الذي سبّبته قضية «بريكست» في الروابط بين هذه العناصر الأربعة، لكنه من غير المحتمل أن يهدئ غضب الاسكوتلنديين وأبناء آيرلندا الشمالية الذين صوّتوا لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي.
وهناك تغييرات أخرى ستتطلّب قدراً أكبر من الذكاء والدقة، منها اتخاذ قرارات تعيين من نطاق أوسع والاستعانة بمزيد من الموظفين المهرة في استخدام التكنولوجيا، إلى جانب التوسع في مسألة اتخاذ القرارات بناءً على الأدلة والاستعانة بخبراء بيانات في قلب المشروعات الكبرى.
وحال تنفيذ هذه الخطوات بصورة جيدة، فإنها ستحسّن مستوى أداء الخدمة المدنية البريطانية والتي يحظى أداؤها بالفعل باحترام واسع النطاق. ومع هذا، فإن نبرة المنشور الأخير الذي أطلقه كامنغز توحي بأنه يرغب في إقرار محرك جديد تماماً داخل وايتهول، الذي لا يزال يضم غالبية الوزارات الحكومية. هناك، من المحتمل أن يصيبه الإحباط.
ومع أن رواتب الخدمة المدنية تبدو تنافسية مقارنةً بالقطاع الخاص، فإن الاستعانة بالعناصر عالية المهارة من تكنولوجيين ومديرين التي يسعى وراءها كامنغز ستحدث ضغطاً خطيراً على الرواتب. وربما ينجذب بعض هذه العناصر للعمل لدى الحكومة للإسهام في حل مشكلات العالم الكبرى، لكن إلى متى؟ وتكشف الصعوبات الأخيرة التي تواجهها وزارة التجارة الدولية في توظيف عناصر رفيعة القدرات، مدى صعوبة منافسة الحكومة في الحصول على المهارات داخل سوق العمل. وكشف تقرير صدر عن «معهد الحكومة»، العام الماضي، عن أن معدلات التدوير المرتفعة في الوظائف الحكومية تكشف مدى صعوبة الاحتفاظ بالعناصر الجيدة.
وربما يتعين على كامنغز إمعان النظر في تجارب دول أخرى في هذا الصدد. على سبيل المثال، أوضح تقرير صادر عن مؤسسة «نيو أميركا» أن العناصر الخارجية التي يجري الزج بها لمعاونة العمل الحكومي لا ينبغي التهليل لها كأبطال خارقين، لأنَّ هذا الأسلوب «قد يخلق مشاعر سخط وأزمات وانقسامات بين الوافدين الجدد لحل المشكلات وموظفي الخدمة المدنية العاملين بها منذ فترة طويلة».
ويبدو أن الأمر الذي يغفل عنه كامنغز أن الحكومة بطبيعتها تختلف عن القطاع الخاص والمؤسسات التكنولوجية الكبرى، ذلك أن الدولة ليست قطاعاً خاصاً وليس بها حافز تحقيق الربح. وإنما يحمل الموظفون الحكوميون بداخلهم شعوراً بالواجب تجاه رعاية المواطنين، وأي خطأ يقع هنا قد يكون ثمنه فادحاً.
في الواقع، الحكومات بطبيعتها قديمة الطراز. أما الابتكار، فيتطلب وقتاً ويمكن أن يخلق مشكلات غير متوقعة، مثلما كشفت العلاقة المتوترة بين خدمة الصحة الوطنية وشركة «بابيلون» للتكنولوجيات المعنية بالصحة. نحن نرغب في تحفيز الموظفين الحكوميين، لكن نود أيضاً توفير درجة من الأمن الوظيفي لهم كي يتمكنوا من العمل على نحو ملائم.
ولا يعني ذلك أنه ينبغي التخلي عن جهود الإصلاح. الحقيقة أن «بريكست» من يتحمل اللوم عن تعطيل هذه الجهود. جدير بالذكر أنه في ظل قيادة الزعيم المحافظ السابق ديفيد كاميرون، كان هناك برنامج ضخم لرقمنة الحكومة بأكملها.
وباعتبارنا مستهلكين للخدمات العامة، يمكننا التسامح إزاء أمثال كامنغز الذين يحملون بداخلهم خططاً كبرى طموحة لتحسين هذه الخدمات، لكن ما ينبغي الانتباه إليه نهاية الأمر أن الخدمات الحكومية لا يمكن إعادة صياغتها على نحو يشبه استثمارات «سيليكون فالي».
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»