سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

كارلوس اللبناني

أكثر من عشرين كتاباً سطرت عن كارلوس غصن، وقريباً مؤلّف آخر يذهب إلى حيث لم يخطر ببال أحد، وهو البحث عن سرّ كلامه القليل عن أبيه. ويكشف الكتاب الذي سيصدر بالفرنسية عن جانب بقي الرجل يتكتم عليه، وهو تورط والده في جريمة قتل حكم بسببها بإعدام لم ينفذ، لكنه سجن لفترة طويلة. وهو ما يجعل الابن يذكر باستمرار جده بشارة، المهاجر اللبناني الفقير إلى البرازيل، الذي صار تاجراً ناجحاً يعتدّ به، بدلاً من الوالد المسكوت عنه.
هذه المعلومات، لا تغير شيئاً من أمر الاتهامات الموجهة إلى غصن في اليابان، لكنها تدلل على محورية دوره، ومدى الاهتمام الجارف بشخصيته، ومطاردة كل تفصيل ولو صغيراً عن حياته.
«إمبراطور صناعة السيارات» بات ظاهرة في نجاحه المدّوي، كما في محاولة إسقاطه التي وصفت في فرنسا بـ«الزلزال». مخطط لا بل مفكر فذّ، آت من ثقافات متعددة، يحمل جنسيات من ثلاث قارات. مهاجر أباً عن جد، يتحدث الفرنسية والإنجليزية والبرتغالية والعربية بالطلاقة ذاتها. بروفايله الشخصي كما في أساليبه التي اتبعها في العمل، يعتبر تجسيداً حياً ونادراً في أوروبا وآسيا، لمهندس الشركات التجارية المعولم، القادر على إدارة عدة شركات ضخمة، في وقت واحد، وبنجاح منقطع النظير، ويحقق أرباحاً بعشرات مليارات الدولارات، في زمن وجيز، ويشرف على مئات آلاف الموظفين دون أن يرف له جفن، ويحيك علاقات اجتماعية وسياسية أخطبوطية حول الكوكب، من الطرز الأول. كثيرون جداً هم من قابلوا كارلوس غصن أو رأوه صدفة، من رؤساء جمهوريات إلى مواطنين صغار. فالرجل في حركة مكوكية لا تهدأ، وبحالة تنقل عجائبية لإنسان دخل ستيناته، ولا يزال متوقداً ومتحمساً كشاب في العشرين. يمكنك أن تضيف إلى ما سبق صداقات يصعب حصرها، وإصراراً على حياة عائلية لا مساومة عليها. فأول أولوياته «الأبوة» الناجحة. وما دفع به إلى الهرب من اليابان سببان: إحساسه بجور النظام القضائي، وحرمانه من رؤية زوجته. وهو ما اعتبره كسراً مقصوداً لإرادته، وامتحاناً في موضع لا يمكن أن يقبل به.
ألقابه كثيرة: «سوبر ستار»، «نابليون السيارات» أو «الفرنسي الأشهر في اليابان». مشكلته الرئيسية أنه يعرف قدر نفسه، واعتقد دائماً أن الذين عمل معهم لما يكافئوه مادياً بالمبالغ التي يستحقها. وبقدر ما أنجز كان يثير الحنق حوله، بقراراته التي نادراً ما لا تنفذ. توسعت سلطاته بعد سنوات من ابتكاره هندسة لا سابق لها لاتحاد «نيسان - رينو»، وبقي كل طرف يتهمه بأنه رجح كفة الطرف الآخر، وهو في النهاية ما عجّل في تحرك السلطات اليابانية للكشف عن تجاوزات قديمة، يرجح أن يكون سببها اقتراب موعد دمج الشركتين. ما اعتبرته «نيسان» تذويباً لهويتها. ولم يكن إيقاف المشروع ممكناً دون الإطاحة بـ«العقل المدبر».
هذا لا يعني أن غصن بريء من كل ما نسب إليه، لكنه لا يثبت أيضاً أن من رفع إلى مصاف «بوذا» ذات يوم، يستحق بلمح البصر وضعه في زنزانة انفرادية وتضطر السفارة اللبنانية هناك، لأن تشتري له فراشاً كي يتمكن من قضاء ليله. ومن المبالغة أن ينتظر موعد المحكمة حتى عام 2021 ويعامل إلى حينها كمجرم مرتكب.
إنه صنف مستجد ومعقد من القضايا، تختلط فيها الحروب التجارية بالحسابات السياسية، في اليابان كما في فرنسا. فما اعتبر تهرباً ضريبياً هو على تعويضات لم تصل إلى جيب الرئيس التنفيذي لـ«نيسان» بعد، والمنازل الرافهة التي اشترتها الشركة ليتنقل بينها، ليست سرية ولم تكتب باسمه، كي يثار موضوعها اليوم. كان ثمة سكوت عما اعتبره غصن حقاً له، مقابل جهوده «السوبرمانية» التي أتت بنتائج خارقة. كان مقياسه أميركا ورجالات أعمالها، خاصة بعد أن عرضت عليه إدارة «جنرال موتورز» برغبة من أوباما مقابل 35 مليون دولار في السنة، أي بزيادة 20 مليون دولار عما يتقاضاه، ورفض «لأنني لا أستطيع أن أترك السفينة من دون ربّان». قرار مصيري خاطئ يندم عليه اليوم. هل ظن غصن أن من حقه تعويض بعض مما خسره، بمزيد من الإنفاق؟ هل أخطأ كثيراً حين سمح لنفسه أن يخلط بين الشخصي، وما هو مهمات ضمن الوظيفة؟ تباين كبير بين رؤية غصن لدوره الاعتباري واستحقاقاته المالية، وحسابات مشغليه في البلدين. رأى إلى نفسه صاحب المشروع وقبطانه، وبقيت فرنسا واليابان تنظران إليه كمجرد موظف تجاوز حدوده.
عاش دائماً، كمواطن عابر للجنسيات، لكن تعدد انتماءاته صار لعنة عليه، وجعله غريباً أينما حلّ. امتحان صعب لرجل آمن بليبرالية متوحشة يحق لها أن تغلق المصانع براحة ضمير، وتسرّح العمال بالآلاف، لتراكم الأرباح بعشرات المليارات. ذاك كان محبباً ومحبذاً في السنوات العشرين الأخيرة. ونُظر إلى غصن وهو يقفز بالأرقام، وينبش الشركات الميتة، ويخرجها من القبور على أنه صانع «المعجزات». احتفل الجميع بتتويج اتحاد «نيسان - رينو» كرقم واحد على عرش صناعة السيارات، دون انتباه للآثار الإنسانية والندوب التي تركها على حياة كثيرين. لكنّ ثمة عهداً آخر يبدأ، إنه زمن الانتفاضات، والسترات الصفراء، وصرخات الحناجر البشرية المتألمة. كارلوس غصن لم يرتكب جديداً يعاقب عليه، لكن الظروف تغيرت، وما كان يستحق التبجيل بالأمس، أصبح ممجوجاً، يراد التخلص منه. وليس هيناً أن ترى أحد أبرز رموز العولمة التجارية في القرن الحادي والعشرين، يهرب في صندوق بعد أن تخلى عنه العالم أجمع، ولا يجد السكينة إلا في أرض أجداده.