خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

ثلاث إصابات جانبية في عملية سليماني

الأخبار عن مقتل سليماني ترصد عشر «إصابات». لكنها تغفل ذكر ثلاث، موجودة الآن في غرفة الإنعاش، واحتمالاتها الطبية المستقبلية سيئة.
أولى هذه: أوروبا. حين أعلن ترمب قبل سنتين انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني كان الموقف الأوروبي متحدياً. ليس للولايات المتحدة وحدها، بل أيضاً لجيران إيران الذين عبّروا بصراحة ووضوح عن مخاوفهم من اتفاق يمنح إيران منافع اقتصادية، من دون أن يُلزمها بكبح سلوكها الميليشياوي وأحلامها التوسعية. كان لأوروبا في هذا مصالح تجارية وسياسية لم تكترث معها بما يحدث لغيرها.
لكننا رأينا أوروبا، بعد سنتين فقط من موقفها السابق ذلك، وهي تقف عاجزة لا تستطيع أن تخرج بموقف واضح. أميركا تستطيع أن تتجاهلها وتتصرف منفردة. كصفر على يسار المعادلة، أو كسر ضئيل بعد علامة عشرية. ترمب لم يُضعف أوروبا. ترمب أظهر ضعفها.
أوروبا تعيش حالة نفسية غريبة منذ الحرب العالمية الثانية. حالة الصداقة اللدودة مع المنقذ. هذه الحالة التي نراها في حياتنا الشخصية من الأشخاص ذوي الكبرياء الذين نُسدي إليهم معروفاً، ونرى في تعاملهم معنا دائماً تنازع شعورين: الإقرار الداخلي بالفضل، مع البحث الدائم عن سبب يعفيهم من ثقل الارتهان لهذا الفضل.
أمكنَ لهذه الحالة الحصول على دواء مسكن في ظل الحرب الباردة، مع وجود الاتحاد السوفياتي كخطر مشترك. ظلت الولايات المتحدة وأوروبا كلتاهما في احتياج إلى الأخرى يُرضي النزعة الأوروبية في الإحساس بالندية.
لكنَّ هذا تغيّر بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وعودة عدد متزايد من نخبة الولايات المتحدة في نظرتها إلى العالم إلى سابق عهدها قبل بيرل هاربر. الولايات المتحدة، يوماً بعد يوم، لا تحتاج إلى أوروبا بالقدر الذي تحتاج إليها أوروبا. والناتو لا يزال يفكر في التوصيف الوظيفي الذي تلقاه في عصر الكتلة الغربية، ويطلب من أميركا أن تدفع مقابل أدائه وظيفة لا تهمها.
في المقابل، أوروبا، يوماً بعد يوم، تثبت عدم قدرتها على المبادرة، والاعتماد على نفسها. الاتحاد الأوروبي الذي أُريد له أن يكتسب من التكتل ثقلاً عالمياً، تحوّل تكتله ثقلاً على آلية اتخاذ القرار. صارت روسيا المحدودة اقتصادياً أكثر حسماً في الدفاع عن حلفائها، وأكثر رشاقة في القفز لحماية مصالحها. العقلية البراغماتية الإنجليزية أدركت ما أذكره هنا، فزادت الأمر سوءاً على أوروبا بـ«بريكست». هذا يعطي للولايات المتحدة سبباً إضافياً لتجاهل أوروبا، والتركيز على التحالف «الأنغلوساكسون» مع بريطانيا وأستراليا. وهذا مهم لصناع القرار وأهل السياسة في الشرق الأوسط. البوصلة تذهب بعيداً عن أوروبا. صارت أضعف أمام سلوك الابتزاز من تركيا وإيران. في هذا أزمة وفيه فرصة بالنسبة إلى محور الاعتدال في المنطقة.
الإصابة الثانية: آلة الدعاية الإيرانية. حين نقول آلة الدعاية في أي مكان فنحن نتحدث عن منتج مهم، لكنه مجرد جزء من عملية متكاملة. أما حين نقول آلة الدعاية في نظام آيديولوجي فنحن نتكلم عن كل شيء تقريباً. ليست هذه سنغافورة المنكفئة على نفسها، والتي لا يهمها ما يقوله الآخرون عنها، حتى تحقق المعجزة. نحن نتحدث عن نظام أهم ما يهتم به هو إيمان أتباعه عبر الحدود بقدراته الخارقة «المخفية». نظام لا يهمه ما يضعه الإيراني على مائدة طعام أطفاله في العشاء، بقدر ما يهمه أن تنسب إليه حكايات البطولة على لسان جريدة لبنانية، أو محلل «عالمي» يخيف العالم من عواقب غضب هذا النظام.
المحلل العالمي نفسه هو الإصابة الثالثة. هذا الشخص الذي يكتب عن السياسة الدولية في الصحف الكبرى، فيصنف الدول وخطرها، ولا يملك المواطن العادي، ولا يهتم، أن يفتش خلفه لكي يعرف الحقيقة. ولو فعل لَعلِم حجم الكذب والتضليل الذي يمارسه. لقد حصل على إشارة خضراء بأن ينطق عن الهوى.
لكي يمرَّر الاتفاق مع نظام إرهابي كالنظام الإيراني كان على المحلل العالمي أن يشتت الرأي العام عن جرائمه. عن ميليشياته المنتشرة في أربع دول في المنطقة، ومنها شنت حروباً على دول مجاورة. أن يضخّم في خطر الدول الأخرى، حتى تلك التي لم تتعد حدودها ولم تطلب إلا تأمين هذه الحدود. ثم إنه يبالغ في التخويف من قدرات إيران العسكرية، ويحذر من مواجهتها، لكي يقول إن استرضاءها هو الحل الوحيد. ماذا سيكتب هذا في المقال القادم؟!
حسناً. لا تزال مؤسسات صنع القرار في أوروبا وأميركا في حاجة إلى هذا المحلل العالمي لتمرير سياسات خارجية قادمة. لكنّ ترمب أهانه وقلل من قيمته أمام الرأي العام. أما في الدول المعنية بشكل أكبر، كالعراق ولبنان وغيرهما من دول المنطقة، فقد سقطت عنه الهالة كما سقطت عن إيران، وتحول إلى فانٍ اقترب من الزوال.