حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

ما بعد سليماني: حذار فخ «الثأر»!

لم يكن قد مرّ إلاّ ساعات قليلة على اعتراف القيادة الإيرانية بالمسؤولية عن «خطأ جسيم» أدى إلى إسقاط الطائرة المدنية الأوكرانية ومقتل ركابها الـ176، حتى انفجر الغضب الشبابي الشعبي في الجامعات، وخرج إلى الشوارع والساحات، وامتد من طهران إلى أبرز المدن الإيرانية. كان الغضب واضحاً في الهتافات والشعارات، فلأول مرة لم ترفع المطالب الاجتماعية والمعيشية، بل الدعوة إلى محاسبة حقيقية لكل المسؤولين عن إسقاط الطائرة. حُرقت صور قاسم سليماني الذي تم وصفه بالقاتل، وارتفع مطلب دعوة المرشد علي خامنئي إلى الاستقالة، ودعوة «الحرس الثوري» إلى الرحيل بوصفه جيش نظام الولي الفقيه الذي جلب الويلات والعداوات لإيران وشعبها... وباختصار أسقط الشارع في ساعات قليلة كل الجهود التي استغرقت أياماً لتنظيم تشييع حاشد لقائد «فيلق القدس» يكون رسالة للداخل والخارج عن حجم المكانة الشعبية التي ما زال يحوزها حكم الملالي!
جيد أن تعترف إيران بالمسؤولية عن إسقاط الطائرة المدنية وأنها مستعدة لتحمل النتائج، لكن الاعتراف لم يخدم كثيراً نظام الملالي لأنه تم بعد ثلاثة أيام من الإنكار وفشل محاولات إلصاق المسؤولية بالطاقم أو تعرض الطائرة إلى عطلٍ فني، والإصرار على تلفيق الروايات رغم ترجيح أكثر من دولة، ولا سيما كندا وأوكرانيا، أن الطائرة أسقطت استناداً إلى معطيات استخبارية دولية. أكثر من ذلك كشف الحدث الجلل حقيقة صورة إيران في المنطقة والعالم.
في الداخل برزت مطالبة الزعيم المعارض مهدي كروبي من الإقامة الجبرية لخامنئي بالاستقالة بعدما سأله: «لماذا الإنكار وكيل الأكاذيب لثلاثة أيام؟ أنت لا تمتلك صفات القيادة وعليك التنحي». وعلى مستوى صورة الدولة ومكانتها العسكرية بدا أنها تهشمت وانكشفت قدراتها، لا سيما أنها حدثت بعد فضيحة القصف الصاروخي على قاعدة «عين الأسد» الذي بالكاد ترك بعض الأضرار المادية، فجاء إسقاط الطائرة الأوكرانية بصاروخٍ محمول ليفضح الهزال العسكري الإيراني ومدى الضعف في التحكم والقيادة! ومدى الإرباك والهلع بعد التهديد الأميركي بضرب 52 هدفاً، فتم إسقاط الطائرة التي أقلعت قبل دقائق، إذ اعتبرت صاروخ كروز موجهاً إلى هدفٍ إيراني! والحصيلة، الأجواء الإيرانية غير آمنة للطيران المدني ومطارات إيران غير آمنة للاستخدام... والخوف كبير من أنه إذا كان مستوى أداء «الحرس الثوري» على هذا الشكل الهزيل، فكيف هو أداء ميليشيات وأذرع «الحرس» في المنطقة وقد تم تسليحها بهذا النوع من الأسلحة!
اعتبر الشارع الغاضب الحكم عدو الشعب، فكانت الدعوات لإسقاط حكم المرشد و«الموت لولاية الفقيه»، ولم يعد خافياً مدى التآكل الكبير في شرعية النظام المتهالك الذي أقامه الخميني قبل أربعة عقود، وهي شرعية من غير الممكن المحافظة عليها لعجزها عن مواجهة الأزمة الاقتصادية - المعيشية وفشلها في إيجاد حلولٍ لها، وكذلك في مواجهة الرفض السياسي لحكم الملالي الذي تحول أزمة أمنية لم يعد بين أيدي نظام التحريض الطائفي أي إمكانية للمعالجة إلاّ بالقتل! والأمر الذي يفاقم الأداء القاصر للنظام هو أن قتل سليماني، الجهة التي تمتلك القرار وتختزل كل العلاقات بين طهران من جهة وبغداد ودمشق وبيروت من جهة أخرى، جعل القيادة الإيرانية تستحق لأول مرة أن الردع الأميركي وُضِعَ في التطبيق، ما يعني أن الشعارات المرفوعة على شاكلة إخراج الأميركيين من المنطقة لم تعد قابلة للتحقق، لأنهم في إيران أعرف من غيرهم بحجم الخلل في موازين القوى مع الولايات المتحدة.
لكن طهران التي أعلنت رسمياً أن قصف «عين الأسد» ردٌ متكافئ على مقتل سليماني، لم تسلم واقعياً بما آلت إليه الأمور، ويبدو أن مخططاً بديلاً قد اعتمد؛ لأن الأمور عند هذا الحد تعني الرضوخ لخسارة نوعية، ففي الأيام العشرة الأولى من العام الجديد خسرت إيران كثيراً من دورها وهيمنتها. أكثر من ذلك في أيام قليلة بدا أن الهلال الإيراني الشيعي آيل إلى الأفول، بعدما استنزف طاقات إيران لأكثر من ربع قرنٍ، حتى إن معبر البوكمال الذي هللت إيران لافتتاحه بوصفه الجسر الذي يربط طهران بالمتوسط أصبح الشاهد على نكبة المشروع الإيراني!
قبل أن يُشيع سليماني، ومع تعيين خلفه قاآني قائداً لـ«فيلق القدس»، ترجح جهات مطلعة أن اجتماعاً أمنياً رفيعاً ترأسه خامنئي، بحث وأقر إنشاء جهاز مستقل، عسكري - أمني، يضع في رأس أولوياته حماية المواقع المتقدمة لإيران في المنطقة والإمساك بالوضع كما هو في لبنان والعراق، ومواجهة التحديات، والمقصود هنا الوجود والدور الأميركيان، ويتردد أن ضربات موجعة إذا ما وجهت إلى الأميركيين من شأنها أن تقطع طريق الولاية الثانية أمام الرئيس ترمب!
بهذا السياق جاء الخطاب الأخير لزعيم «حزب الله» يوم الثاني عشر من الشهر الحالي، في ذكرى أسبوع على مقتل سليماني. الخطاب الذي خلا من أي إشارة إلى الوضع اللبناني، وحدة الأزمة التي يتخبط بها نظام المحاصصة الطائفي حيث يتعمق الفراغ المهدد بالفوضى، واحتمالات انفلات الوضع أمام المجاعة الزاحفة، وغياب البحث الجدي بتشكيل حكومة الحد الأدنى نتيجة قرار إقليمي، وليس نتيجة الخلافات الحقيقية بين أطراف نظام المحاصصة... إلخ. في هذا الخطاب كشف نصر الله أن الضربة الإيرانية في «عين الأسد» هي مجرد صفعة، وبعدما استفاض في تقديم «أفضال» سليماني على كل بلدان المنطقة من غزة حتى أفغانستان، أعلن أن قوى المقاومة معنية بالثأر، وأن الرد «مسار طويل يجب أن يفضي إلى إخراج الوجود العسكري الأميركي من منطقتنا»!
مرة أخرى يتم وضع لبنان في عين العاصفة، فالبلد الذي يبحث عن دعم ما، كي يلتقط أنفاسه، ويراهن على استمرار الدعم العسكري الأميركي للجيش، يتم وضعه رغم أنف الأكثرية الساحقة من أهله أمام مهام الثأر التي حددها نظام خامنئي، وليس في لبنان قواعد أميركية ولا «يانكي» يحتل بلادنا، ومع أنها المرة الثانية التي يحدد فيها نصر الله الوجهة والبوصلة، فأهل السلطة، رئاسة وحكومة وخارجية، لاذوا بالصمت وكأن الموضوع لا يعنيهم أو أن مصير البلد وحياة أهله لم تعد بين أولوياتهم! وفي حين يعرف القاصي والداني ما كان دور سليماني في الحرب على الشعب السوري دفاعاً عن نظام الأسد، لفت انتباه كل الناس زيارة الرئيس بوتين وتجوله في دمشق واستضافته الأسد (...) وما رافقها من إبلاغ أوامر صارمة بالانضباط والحؤول دون استخدام الأراضي السورية ورقة في بورصة الثأر لقاسم سليماني، فلماذا هذا الإصرار على تحميل اللبنانيين ما هو أكبر من طاقتهم؟ ومن في زمن العزلة التي يعيشها لبنان، والانهيار المعيشي وإفلاس الدولة التي نُهبت، سيتحمل تداعيات استدراج البلد إلى الفخ؟