صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

إردوغان و«الوطن الأزرق» والسيطرة على ليبيا وإشغال مصر!

لعل ما لا شك فيه أن مصطفى كمال (أتاتورك) أهم بألف مرة وأكثر من رجب طيب إردوغان، ومع الأخذ بعين الاعتبار عامل الزمن في هذا المجال، لكنه لم يذهب بعيداً في أمانيه وتطلعاته، وإلى حد تصور نفسه على أنه «خليفة» جديد للدولة العثمانية، لا بل إنه، أي «أتاتورك»، قد بادر إلى إزاحة تراث العثمانيين كله بما في ذلك استبدال حروف «لاتينية» بالحروف العربية، بالنسبة للغة التركية، وأيضاً إلى إدارة ظهر تركيا للإسلام والمسلمين وللعرب على اعتبار أنهم، حسب اعتقاده، سبب انهيار العثمانيين وهزيمتهم في الحرب العالمية الأولى وبالطبع فإن هذا غير صحيح على الإطلاق.
والصحيح هو أن الإمبراطورية العثمانية كانت قد وصلت إلى ذروة شيخوختها في بدايات القرن العشرين وأن هزيمتها كانت كارثية ومريرة في الحرب العالمية الأولى وأنَّ من قسَّم الإرث العثماني وحوله إلى دول ودويلات، من بينها إسرائيل، ليس العرب وإنما الدولتان المنتصرتان في تلك الحرب، أي فرنسا وبريطانيا العظمى.
وإنّ ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن «تدمير» الدولة العثمانية واستبدال نظام «أتاتورك» بها كان المقصود به إقامة الدولة الإسرائيلية على جزء من فلسطين، وأن اليهود في تركيا قد لعبوا دوراً رئيسياً في هذا المجال وأن آخر خليفة عثماني، الذي هو عبد المجيد الثاني، كان رافضاً رفضاً قاطعاً ومانعاً ومطلقاً لتحقيق الرغبة الصهيونية بإقامة كيان للإسرائيليين في أي أرضٍ «عثمانية»، وبخاصة في فلسطين التي كانت ولا تزال تعتبر مقدسة نظراً لأنها تضم مدينة القدس التي فيها المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة وأماكن إسلامية ومسيحية متعددة أخرى.
ولهذا فإن الأمانة تقتضي، ليس الإشارة، وإنما التأكيد على أن هناك فرقاً كبيراً بين «أتاتورك» ورجب طيب إردوغان، فالمعروف أن الأول، أي مصطفى كمال، كان معادياً لـ«الخلافة العثمانية» وأنه كان يعتبر نفسه ويعتبره أتباعه على أنه «علماني» وأنه، كما يُقال، كاد يلغي الدين الإسلامي في دولته العلمانية هذه، وذلك في حين أن إردوغان بقي يتصرف تجاه دول الجوار وأيضاً في الداخل التركي نفسه على أنه «عثماني» وأنه يسعى لاستعادة بعض ما يعتبره «أملاكاً» عثمانية، وهنا فأغلب الظن، لا بل المؤكد، أنه قد التحق بـ«الإخوان المسلمين» على هذا الأساس، وأنه أصبح «مرشدهم العام» ليقدم نفسه على أنه خليفة وأنه «أمير» للمؤمنين وامتداد للخلفاء العثمانيين ووريث للأخير منهم الذي هو عبد المجيد الثاني.
ثم إنه لا شك في أن وراء هذا كله أطماعاً سياسية واضحة، فتصرفات رجب طيب إردوغان على أنه خليفة عثماني جديد، وإن كان من دون جبة وعمامة، تعني سعيه لإضفاء النفوذ التركي على هذه المنطقة الشرق أوسطية كلها وأنه حسب اعتقاده من حقه أنْ يتمدد، إنْ جغرافياً وإنْ سياسياً في «أملاك» أجداده العثمانيين وأن يرفع شعار: «الوطن الأزرق» نظراً لأن الدولة العثمانية كانت دولة بحرية وأنها لها امتدادات في البحر الأبيض المتوسط، وهذا بالإضافة إلى البحر الأحمر وإلى الخليج العربي وأيضاً إلى البحر الأسود والمحيط الأطلسي وغيرها.
والمهم أن إردوغان وعلى اعتبار أنه على قناعة راسخة أنه وريث «الخلفاء» العثمانيين ووريث الإمبراطورية العثمانية فإن من حقه أن تكون جزيرة قبرص بجزأيها «التركي» و«اليوناني» ملحقة بتركيا وأنّ «عمقه» البحري، في البحر الأبيض المتوسط، لا يقف عند حدود المياه الإقليمية القبرصية وإنما يتعداها حتى الشواطئ الأفريقية وبخاصة شواطئ ليبيا... وأيضاً حتى بعض شواطئ مصر، وهنا فإن المؤكد أن هذا هو دافعه الأساسي لإبرام هذا الاتفاق الغريب والمستغرب مع فائز السراج رئيس «دولة طرابلس» (الغرب) الكسيحة الذي يعتبر نفسه تركياً ومن أصول تركية!!
وهكذا ولأن إردوغان يعرف أنه لا يمكن تحقيق لا كل وحتى ولا بعض أحلامه «الإمبراطورية» العثمانية هذه ما لم يستعن بـ«الإخوان المسلمين» المصريين الذين من المفترض أن المعروف أنهم يشكلون الرقم الرئيسي، «تنظيمياً» و«سياسياً»، في المعادلة الإخوانية الدولية، وأنهم يحاولون استعادة ملكهم المضاع الذي كانوا فقدوه في الثالث من يونيو (حزيران) عام 2013 بإزاحة الرئيس «الإخواني» السابق محمد مرسي وحلول الرئيس عبد الفتاح السيسي محله كنتيجة لتلك الهبة الشعبية المصرية ولوقوف القوات المسلحة إلى جانب الشعب، وهي التي كانت ولا تزال تتكئ على معطيات وطنية صادقة وصحيحة.
ولذلك فإن أهداف رجب طيب إردوغان وتطلعاته هذه كلها قد تضافرت مع بعضها بعضاً وجعلته يعقد هذه الصفقة الإلحاقية مع فائز السراج، الذي يعتبر نفسه ويعتبره الرئيس التركي الجهة الشرعية الوحيدة في هذه الدولة العربية، وهنا فإن الهدف الأساسي بالتأكيد هو حصار مصر وهو استعادة «الإخوان المسلمين» المصريين لـ«ملكهم المضاع»، وعندها وإن تحقق هذا، وهو لا يمكن أن يتحقق وعلى الإطلاق، فإنه سيكون من السهل على الرئيس «العثماني» تحقيق هدف «الوطن الأزرق» واستعادة تركيا الإردوغانية مكانة الدولة العثمانية في البحر الأبيض المتوسط.
وبالطبع وبالإضافة إلى هذه التطلعات «العثمانية» كلها فإن إردوغان يعرف بحكم عوامل كثيرة أن قدمي «ليبيا» تغوصان في نفط وغاز مياه البحر الأبيض المتوسط حتى الركب، وأنّ بعض الأراضي الليبية تعتبر منجماً ذهبياً لا مثيل له في هذه المنطقة، وبالطبع فإن المعروف أن «العثماني» الجديد مغرم جداًّ، كما يقال، بـوهج و«لمعان» هذا المعدن الثمين وأنه يعرف أنه كانت هناك ما يعرف بـ«الليرة المجيدية» الذهبية.
وعليه فإن المفترض ألا تتردد مصر، التي تحظى بمساندة العديد من الدول الشقيقة وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، في الذهاب بهذا الشوط حتى النهاية والحؤول دون تحقيق إردوغان لهدف إلحاق ليبيا بأملاكه العثمانية، إذْ إن هذه مسألة في غاية الأهمية، وإن هذا الأمر لا يجوز التهاون به وعلى الإطلاق.
إن العرب لا علاقة لهم فعلياًّ بالقضاء على «دولة الخلافة»، وإن المعروف أن البريطانيين والفرنسيين هم وراء كل ما ترتب على انتصارهم في الحرب العالمية الأولى وأن تقسيم الدولة العثمانية العظمى قد تم بمبضع معاهدة «سيفر» التي على أساسها قد تم تقسيم العالم العربي وعلى هذا النحو وبحيث استعمرت فرنسا بعض دوله واستعمر البريطانيون ما تبقى منها وحيث كانت جريمتهم الكبرى أنهم أقاموا هذه الدولة الإسرائيلية المصطنعة في فلسطين و«نثر» غالبية أهلها على الدول المجاورة كلاجئين لا يزال بعضهم يعيشون في مخيمات بائسة.
والمؤكد في هذا المجال هو أن إردوغان ماضٍ في استعادة ما يدعى: «الوطن الأزرق» وأنه من غير المتوقع أن يلتزم باتفاقه الأخير مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأنه لن يستجيب لدعوة وزراء خارجية فرنسا ومصر واليونان وقبرص الأخيرة، وإن الواضح، لا بل المؤكد أنه ذاهب بهذا الشوط حتى النهاية، مما يعني أنه لا بد من دعم حقيقي من قبل كل هذه الدول المعنية للمشير خليفة حفتر الذي من المعروف أن «الجيش الوطني» الذي يقوده قد حقق انتصارات فعلية في الآونة الأخيرة.
وعليه وفي النهاية فإن مما لا شك فيه هو أن إردوغان، الغارق في الأوهام «العثمانية» حتى أذنيه والمستند إلى دعم التنظيم العالمي لـ«الإخوان المسلمين» ودعم إيران و«الشقيقة» قطر أيضاً يعرف أن تحقيق هدف «الوطن الأزرق» غير ممكن ما لم يتم إضعاف مصر وإشغالها بـ«إشكالات» داخلية، ولهذا فإنه قد بدأ ومعه حلفاؤه في تصدير العديد من المجموعات الإرهابية إلى ليبيا ونقلها، وقد أصبحت أعدادها بالألوف إلى الحدود الليبية - المصرية لاستئناف عمليات الإرهاب السابقة.