عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

السودان... ماذا بعد إحباط تمرد قوات الأمن؟

البطء أكبر مشكلة تواجه الحكم الانتقالي في السودان، وربما يشكّل في نهاية المطاف أكبر خطر على الثورة التي لم تكتمل بعد باعتبار أنها لم تحقق أهدافها. فإسقاط النظام كان خطوة أولى في مشوار الألف ميل، والطريق لا يزال طويلاً وشاقاً ومحفوفاً بالمخاطر. وإذا كان هناك من يحتاج إلى تذكير، فإن تمرد قوات هيئة العمليات التابعة لجهاز المخابرات أول من أمس، كان بمثابة طلقة تحذير أخرى بأن عود الثورة ما زال غضاً، وأن المؤامرات لإجهاضها كثيرة، وأن الدولة العميقة متغلغلة وناشطة لزعزعة الاستقرار وإضعاف الحكم الانتقالي، ولن تتورع في تنفيذ انقلاب إذا لاحت لها الفرصة.
هناك بطء واضح في حسم الكثير من الملفات وفي أداء بعض الوزارات، وهو ما صار مصدر شكوى الناس الذين يتوقعون أن تتحرك الحكومة وتتصرف بحيوية ونبض الثورة، كما شجع في الوقت ذاته أنصار النظام السابق على تكثيف تحركاتهم المناوئة. إذا أبرزنا فقط ذلك التلكؤ الحاصل في تفكيك الدولة العميقة ومعالجة التمكين الذي نشر به النظام السابق أنصاره في مختلف مرافق الدولة، يتضح حجم الخطر الذي يهدد الثورة ويكبر ويتمدد كل يوم.
تمرد أفراد هيئة العمليات في جهاز الاستخبارات قدم نموذجاً حياً لعواقب هذا التباطؤ. فهذه الهيئة اتُّخذ قرار بحلها منذ ستة أشهر تقريباً، وكان يُفترض وقتها جمع السلاح الموجود لدى أفرادها، وإخلاء مقارها وبحث التعويضات التي تُدفع لمن شملهم التسريح. لكن وفقاً للمعلومات التي تسربت وقتها فإن منسوبي هذه الهيئة احتجوا على القرار ودخلوا في مواجهة مع مدير المخابرات، أبو بكر دمبلاب. تلك المواجهة كان يفترض أن تدق ناقوس الخطر وتدفع باتجاه إجراءات احترازية في مقدمتها جمع السلاح، وهو ما لم يحدث، مثل ما كشفت عنه الأحداث. الأخطر من ذلك ما كشف عنه، أول من أمس، نائب رئيس المجلس السيادي محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في مخاطبة إعلامية، عندما ذكر أنه اتصل بمدير المخابرات قبل يومين من التمرد وأبلغه بأن هناك معلومات تفيد بتحركات من أفراد هيئة العمليات وأنهم يعتزمون احتجاز ضباط، وطالبه بحسم الأمر، كما سأله ما إذا كان جمْع السلاح منهم قد نُفِّذ.
هناك أسئلة كثيرة تنتظر إجابات من السلطات المعنية وتحديداً من المكون العسكري في مجلس السيادة الذي يتولى الوزارات الأمنية في الحكومة الانتقالية، أي الدفاع، والداخلية، وجهاز المخابرات. فلماذا تأخر تنفيذ القرارات المتخَذة بشأن حل هيئة العمليات؟ وكيف تُرك السلاح في أيدي أفرادها؟ وهل حدث تضليل وإخفاء للمعلومات بشأن جمع السلاح؟
الواضح أن أصابع الاتهام وُجهت ناحية قيادة الجهاز بالكلام عن تقصيرها، وهو ما يفترض أن تكون هناك إجراءات وتغييرات قادمة في الطريق. فالتمرد فتح الباب مجدداً للأسئلة المطروحة بشأن جهاز الأمن وما إذا كان يمكن إصلاحه بإعادة هيكلته بشكل جذري، أم أن المطلوب أكثر من ذلك باعتبار أنه جهاز أنشئ خصيصاً بواسطة النظام السابق لكي يكون جهازاً للقمع والبطش وقمع أي معارضة، وأشرفت عليه منذ البداية عناصر قيادية من تنظيم الإسلامويين حددت توجهاته ومساره وسخّرته لهدف وحيد هو حماية النظام بغضّ النظر عن الأساليب. من هذا المنظور فإن الجهاز أخطر من حزب المؤتمر الوطني الذي قررت السلطة الانتقالية حله ومصادرة ممتلكاته، وبالتالي فإن ما طبِّق على حزب النظام الساقط يُفترض أن يطبَّق على جهازه الأمني الذي لُطخت سمعته أصلاً في نظر الناس وبات رمزاً لأبشع الجرائم والانتهاكات التي حدثت خلال الأعوام الثلاثين الماضية. ورداً على التخوفات التي يطرحها البعض من حدوث فراغ أمني، فإن حل الجهاز لا يعني بالضرورة الاستغناء عن كل منسوبيه، إذ يمكن إعادة استيعاب الكفاءات والأفراد الذين لم يتلوثوا في أي جهاز جديد سينشأ بالضرورة لكن وفق مفاهيم مغايرة وعقيدة مختلفة.
الواضح أن قيادات النظام الساقط تعوّل على جهاز الأمن أو على قسم منه في مخططاتها، وواضح أيضاً أن تمرد أفراد هيئة العمليات بهذه الطريقة لا ينفصل عن العمليات الأخرى لزعزعة الأمن مثل الأحداث المنظمة لترويع المواطنين التي تقوم بها العصابات المنظمة المعروفة باسم «النيقروز»، أو مظاهرات ما يسمى «الزحف الأخضر» التي ترفع زوراً شعارات الدفاع عن الإسلام في محاولة مفضوحة لاستغلال الدين مجدداً من أنصار نظام يعد أكثر مَن شوّه صورة الإسلام بممارساته وفساده. فالمخطط الأكبر هو هز الحكومة، وضرب الثورة، وخلق الظروف المؤاتية لانقلاب يعيد نظام الإسلامويين بوجه جديد.
الذين يقولون إنه لا يمكن منع مسيرات أنصار النظام السابق لأنه سيكون حجْراً على الحريات، عليهم أن يتذكروا أن هؤلاء لم يكترثوا بمصادرة الحريات على مدى ثلاثين عاماً، وأنهم يستغلون اليوم شعارات الثورة في الحرية لضربها سواء بالمسيرات أو الندوات أو عبر وسائل إعلامهم، مثلما فعلوا لوأد الديمقراطية الثالثة وأضعفوا الحكومة المنتخبة بينما كانوا يُعدّون العدة لانقلابهم المشؤوم عام 1989.
تمرد قوات هيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن والمخابرات أول من أمس، كان بمثابة طلقة تحذير بأن عود الثورة ما زال غضاً، وأن اليقظة مطلوبة، وأن السلطة الانتقالية تحتاج إلى الحسم في كثير من الأمور وعلى رأسها الإسراع بمعالجة ملف التمكين في كل هياكل الدولة ومؤسساتها. كما أنه بعد حسم التمرد لا بد من الإسراع في محاكمة ومحاسبة المشاركين فيه لردع كل من تسول له نفسه القيام بعمل، أو التفكير في عمل أكبر يهدف به الإعداد لانقلاب يقضي على الثورة وآمالها. فحتى الآن هناك تأخير واضح، لكي لا أقول تلكؤاً، في محاسبة أركان النظام السابق، باستثناء محاكمة الرئيس المخلوع عمر البشير، بتهم هزيلة، وفي ملاحقة المشاركين في أعمال القتل والتعذيب والفساد وقتل المتظاهرين، باستثناء محاكمة قتلة المعلم أحمد خير الذي تعرض لأبشع أنواع التعذيب على أيدي عناصر من جهاز الأمن، علماً بأن هناك الكثيرين من أفراد هذا الجهاز متورطون في جرائم مشابهة ومنهم من هو معروف للناس وللسلطات. هذا التباطؤ في المحاكمات الرادعة أرسل بالتأكيد إشارات خاطئة للمتربصين بالثورة، كما أنه ترك الباب مفتوحاً أمامهم، سواء من كان منهم معتقلاً أو من لا يزال مطلق السراح، لمواصلة مخططاتهم لإجهاض الثورة وضرب حكومتها.
هناك رسالة أخرى مستفادة من هذا التمرد الذي أُحبط، وهي رسالة إلى الحركات المسلحة التي تقول إنها جزء من الثورة ومستعدة للدفاع عنها، مفادها ضرورة التسريع بملف السلام، حتى توجَّه كل الجهود والطاقات إلى العمل من أجل تحقيق الاستقرار ومعالجة جبل المشكلات الموروث. فمن دون العمل للتنمية والسلام والاستقرار يبقى الباب مفتوحاً أمام المتآمرين والانقلابيين.