سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

دار خارج المنزل

آخر مقاهي الأدباء والفنانين في بيروت كان «الهورس شو» في وسط شارع الحمراء. أغلقته الحرب الأهلية في السبعينات، وعندما انتهت عام 1989 افتتح صاحبه، منح الدبغي، مقهى آخر على بعد نحو كيلومتر، سماه «سيتي كافيه». وأصبح ممن بقي من الزبائن القدامى ضيوف المقهى الجديد، بداخله وشرفته: صحافيون ورسامون وسياسيون وممثلون. ومن أجل الاختلاط بهم، كان يتدروش أحياناً رفيق الحريري لتناول كوب من الجيلاتي.
غاب مداومو «السيتي كافيه» ومدمنوه من «الجيل الأكبر» واحداً تلو الآخر: الرئيس أمين الحافظ والمفكر منح الصلح والزميل نبيل خوري وغيرهم، وغابت معهم روح المقهى في صورته الفكرية، وبعد قليل دبّ السأم والكبر في منح الدبغي، فأغلق المقهى وتقاعد، وأخذ معه اللوحة التي تضمّ صور روّاد «الهورس شو» ووريثتها وما كتب عنهما عبر سنوات بيروت الجميلة.
وبدورهم تفرّق الروّاد وأصبح معظمهم من دون مقهى أو ملتقى. ولا أعرف أين أذهب فلم يعد لي مقهى دائم. قبل الحرب كنّا نداوم في «الهورس شو» الليل والنهار وما بينهما، لأنها تبعد عن مبنى «النهار» نحو خمسمائة متر. وبعد الحرب اقتصر دوامي في «السيتي كافيه» على غداء كل خميس مع أمين الحافظ. وكان يحضر أيضاً أحمد شوقي، الذي يحفظ أمين، كل إمارته.
مع إغلاق «السيتي كافيه» انتهى، بالنسبة إليّ، زمن المقهى. وكان زمناً ممتعاً يظنّ المرء أنه يبدد فيه وقته وهو في الواقع يفيد منه. إنه منبر روما القديمة. وفيه كنّا نتناقش في السياسة والأدب والفنون والشعر. وكان ضيوف بيروت من منفيين سياسيين ومنفيين أدباء يشعرون بألفة ووحدة حال مع هذا الصف المتنوع من واجهة الثرثرة البيروتية. وكان يحضر الآيديولوجيون أخفاء وظرفاء وثقلاء مثل مستحقات آخر الشهر. وكأن بعضهم يسمى «الكمبيالة»، أي سند الدفع. وفي مثل ذلك العمر كانت كل الديون جائزة بما فيها الاستدانة من منح الدبغي، أو حتى من كبير النوادل.
إلى حدٍّ كبير، كان المقهى جزءاً من البيت. أو من المكتب. إنه ثالثهما في كل حال. وكان الأصدقاء الذين يأتون من العالم العربي يتوجهّون مباشرة إلى «الهورس شو» من دون هاتف مسبق. لم يكن أحد قد تخيّل الجوال آنذاك. وقد أمضيت السنوات الأولى من الزواج من دون هاتف في المنزل، لأن الحصول عليه كان صعباً ويتطلب وساطات كثيرة.
جميع المواعيد الآن في مطعم. لا مجال لأن تلتقي صديقاً من دون ثلاثة آلاف وحدة حرارية. وأين المطاعم من أنس المقاهي. وخصوصاً من «سترتها». كلما كنت أسأل منح الدبغي: «كيف الشغل» يقول: «الحمد لله، الصحة منيحة، أما الشغل فكيف تتوقع أن يكون على ثمن فنجان قهوة».
ما زال المقهى مزدهراً في القاهرة. أو في مصر عموماً. ثمة حصة صغيرة لي، وثمة حصة أخرى في باريس. المساء في السان جرمان.