خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

البلاد تعزي البلاد

من ألمع الشخصيات العراقية التي برزت وصاحبت العهد الملكي على امتداده، كان الصحافي والسياسي روفائيل بطي الذي امتلك وحرر الصحيفة الرئيسية في العراق وهي جريدة «البلاد». حرص روفائيل بطي على إعطاء جريدته مكانة مشابهة لمكانة صحيفة «التايمز» اللندنية، على الأقل قبل أن يؤول مصيرها بيد روبرت مردوخ، من حيث اتزانها وحرصها على المصلحة العامة وتمثيلها للمؤسسة العراقية. ومن هنا سميت بـ«البلاد». كانت «البلاد» بالفعل من الجرائد المحترمة في البلاد.
كان روفائيل بطي من العوائل المسيحية الكاثوليكية المحترمة في بغداد. ولكن هذا لم يمنع الصحافي الشهير والأفاق الخطير، يونس بحري من التعريض به في هذا الاتجاه بعد أن عاد من ألمانيا النازية إثر هزيمتها. ولم تسمح له السلطات بأي عمل سوى فتح حانة صغيرة في شارع الرشيد لبيع المأكولات والمشروبات. رآه في هذا الحال الشاعر محمد ناجي القشطيني فقال له مستغرباً ومتهكما: «هاي شنو أستاذ يونس، صرت تبيع مشروبات»! فأجابه يونس بحري: «والله يا أبو سعدون، إش نعمل؟ الصحافة صارت بيد النصارى، والمسلمين صاروا يبيعون مأكولات ومشروبات»!
وكان بذلك يشير إلى صاحب «البلاد». فاتت أيام وجاءت أيام وإذا بالسلطة تعهد إلى الدكتور محمد فاضل الجمالي تشكيل الحكومة الجديدة في الخمسينات. وكان الجمالي حريصاً على استمالة العناصر الوطنية والمثقفة. فاستدعى الأستاذ روفائيل بطي إلى مكتبه وكلفه بتسلم مهمات وزارة الإعلام عندئذ. كانت المعارضة نشطة في تلك الأيام ومتضامنة وفعالة وليست كمعارضة هذا الزمان الذي نحن فيه. لم يكن أحد منها يتوقع من روفائيل بطي أن يقبل منصباً في حكومات ذلك العهد الموالية للإنجليز. بيد أن روفائيل بطي استجاب لتكليف الجمالي وقبل منصب وزير الإعلام.
أثار ذلك امتعاض قطاعات كبيرة من الجبهة الوطنية وكذلك بعض عناصر الدولة. بالطبع لم يكن للمسؤولين من موظفيها مجال للتعبير عن مشاعرهم أو آرائهم في هذا الخصوص. بيد أن السفير العراقي لدى ألمانيا الغربية حينئذ أبدى براعة في التنفيس عن رأيه بتورية أدبية ظريفة عندما بعث ببرقية تهنئة للصحافي الكبير الذي اضطر بحكم منصبه الجديد إلى تعطيل جريدته «البلاد» وحجبها عن الصدور. قال في برقيته:
«نهنئكم بمنصبكم الجديد ونعزي «البلاد» على ذلك»!
كانت تورية تهكمية ظريفة قيلت في أيام ظريفة فاتت وراحت مع أهلها.