رمزي عز الدين رمزي
سفير مصري ومسؤول أممي سابق
TT

سوريا ساحة اختبار للنفوذ الروسي في المنطقة

نجح الاتحاد الروسي خلال السنوات القليلة الماضية في أن يصبح اللاعب الخارجي الرئيسي والوسيط الأهم في الشرق الأوسط، الأمر الذي تمكن معه من استعادة المكانة والتأثير اللذين فقدهما بشكل تدريجي منذ مغادرة المستشارين العسكريين السوفيات من مصر عام 1972. ولا شك أن هذا إنجاز مهم، ولكن تحويله إلى مكسب استراتيجي هو التحدي الأكبر. وفي التاريخ الحديث دروس عن كيفية تبديد مثل هذا الإنجاز.
وتمكَّنت موسكو مؤخراً من عقد اجتماع بين الخصمين الليبيين الرئيسيين خليفة حفتر وفايز السراج، وهو الذي تحقق -على الأرجح- إثر نجاح موسكو في إقناع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بأنها تنقذه من مغامرة غير محسوبة في ليبيا، في مقابل استخلاص تعاون تركي أفضل في محافظة إدلب السورية. وقد يكون الإعلان عن اجتماع في موسكو بين رئيسي مخابرات كل من سوريا وتركيا مؤشراً على ذلك، وتأكيد أن روسيا هي الوسيط الرئيسي فيما يتعلق بسوريا.
وحتى نستطيع أن نستوعب حجم التحدي الذي تواجهه روسيا، فمن المفيد وضع الأمور في إطارها التاريخي. إن مصالح روسيا في الشرق الأوسط تاريخية ذات جذور جيوسياسية ودينية:
أولاً، منذ عهد روسيا القيصرية، سعت موسكو لتحقيق الهدف الاستراتيجي في الوجود في المياه الدافئة على البحر المتوسط. وواصل الاتحاد السوفياتي هذه المساعي من دون تحقيق هذا الهدف بشكل كامل. الآن فقط، وفي القرن الحادي والعشرين يبدو أن روسيا حققت هذا الهدف، بعد أن تمكنت من إنشاء قاعدة عسكرية في حميميم، وأخرى بحرية في طرطوس.
ثانياً، طالما اعتبرت روسيا نفسها حامية للمسيحيين الأرثوذكس الشرقيين، فقد سعت منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى أن تجد لنفسها وجوداً في الأراضي المقدسة، عندما أنشأت جمعية فلسطين الروسية. إضافة إلى ذلك، وتأكيداً لاهتمامها بالمنطقة، كان الاتحاد السوفياتي أول دولة عام 1926 تقيم علاقات مع المملكة العربية السعودية (حين ذاك كانت مملكة الحجاز ونجد)، كماً كان من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل.
ثالثاً، وفي ضوء أن روسيا لديها عدد كبير من المواطنين المسلمين، فليس لديها ترف الاكتفاء بأن تكون مجرد مراقب للتطورات في الشرق الأوسط، وقد أصبح ذلك أكثر إلحاحاً بعدما أصبح الإسلام السياسي أكثر نشاطاً وانتشاراً.
ورغم وضوح المصالح الاستراتيجية، لم تتمكن موسكو من بسط نفوذها في الشرق الأوسط إلا بعد الحرب العالمية الثانية أساساً، بسبب الأخطاء التي ارتكبتها المملكة المتحدة، ثم الولايات المتحدة، في الخمسينات والستينات من القرن الماضي.
ورغم أن موسكو كانت الداعم السياسي والعسكري الرئيسي للقضايا العربية، وعلى رأسها استعادة الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، وممارسة الفلسطينيين لحقهم في تقرير المصير، استمرت الشكوك لدى الدول العربية في أن موسكو ترغب في تجنب الحرب الشاملة بين العرب وإسرائيل. بعبارة أخرى، كان هناك إدراك لأن مصلحة موسكو، مثل الولايات المتحدة، تكمن في استمرار الوضع الراهن، أي حالة اللاسلم واللاحرب. ولم يكن هذا مقبولاً في مصر، خصوصاً بالنسبة للرئيس أنور السادات الذي كان يسعى إلى توطيد حكمه من خلال محو تداعيات الهزيمة العسكرية التي منيت بها مصر عام 1967.
وهنا، على الأرجح، لم تكن روسيا موفقه في حساباتها، فهي لم تتمكن من التوفيق بين مصالحها الخاصة ومصالح حلفائها الرئيسيين من العرب. وفي ذلك الوقت، كانت إسرائيل وتركيا وإيران في المعسكر الغربي، ولم يكن من المهم أن تعييرهم موسكو اهتماماً كبيراً.
ولم تتمكن موسكو من استرجاع نفوذها في المنطقة الذي وصل إلى أدنى مستوياته خلال فترة الرئيس بوريس يلتسين إلا بعد بداية ولاية الرئيس فلاديمير بوتين عام 1999، حيث استفادت روسيا من الغزو الأميركي للعراق، وعداء الغرب لإيران، بالإضافة إلى الارتباك الناجم عن «الربيع العربي»، والسياسات غير الواضحة التي تنتهجها كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا، خاصة في سوريا.
والأهم من ذلك أن موسكو مارست دبلوماسية بارعة، حيث حافظت لنفسها على مسافة متساوية بين الخصوم الإقليميين، وفي الوقت نفسه حرصت على العمل مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة لحل النزاعات الدائرة في المنطقة. ومن الشواهد على ذلك إصرار موسكو على التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن رقم 2245 بشأن سوريا، ومؤخراً طرح اجتماع موسكو بين حفتر والسراج على أنه دعم لمؤتمر برلين حول ليبيا.
ومما لا شك فيه أن الأزمة السورية والنزاع النووي الإيراني كانا من شأنهما تموضع روسيا كوسيط رئيسي بين كل من إيران وتركيا وإسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والعرب.
ومن الواضح أن سوريا أصبحت المكان الذي يتجلى فيه النفوذ والمكانة الروسية. ففي حين أن روسيا هي الداعم الرئيسي للحكومة السورية، فإنها تعمل عن كثب مع خصوم دمشق الرئيسيين: تركيا من خلال عملية آستانة، وكذلك إسرائيل. كما أنها نجحت في الحفاظ على علاقة وثيقة مع إيران، واستطاعت في الوقت ذاته بناء أفضل علاقة لها مع تل أبيب منذ أن نشأت العلاقات بين الدولتين. علاوة على ذلك، فقد نجحت في إدارة العلاقة الثلاثية المعقدة بين دمشق وأنقرة والأكراد، لتكون الوسيط الرئيسي في هذه القضية.
إضافة إلى ذلك، تقوم روسيا بدور نشيط في معظم نزاعات الشرق الأوسط. فكان لها دور أساسي في التوصل إلى الاتفاق النووي الإيراني، ولا تزال تشارك في الجهود المبذولة لمنع انهياره الكامل. كما أنها تسعى للتوفيق بين دول عربية وإيران، من خلال تقديمها كثير من المقترحات بشأن الأمن العربي، إضافة إلى وقوفها على الحياد في اليمن، مما يجعلها قادرة على القيام بالوساطة في الوقت المناسب بين الأطراف المتنازعة كافة. كذلك استطاعت روسيا الحفاظ على علاقات جيدة مع كل من الدول العربية وإسرائيل، الأمر الذي سمح لها بأن تكون وسيطاً موثوقاً به في الحيلولة دون انفجار الموقف، سواء في لبنان أو في الجولان السوري. وحتى فيما يخص الخلافات العربية - العربية، فقد حرصت روسيا على الالتزام بالحياد.
ورغم تلك النجاحات التكتيكية المهمة، فإن التحدي الأهم الذي يواجه روسيا في المرحلة الحالية يكمن في: هل يمكن لروسيا الحفاظ على المكانة المؤثرة التي استطاعت استرجاعها مؤخراً في الشرق الأوسط، وتحويلها إلى مكسب استراتيجي؟ وهل ستكون قادرة على موازنة مصالحها الاستراتيجية مع المصالح المتباينة (المتضاربة أحياناً) بين العرب وإسرائيل وتركيا وإيران؟ المهمة تبدو أبسط على الجانب الاقتصادي، حيث يوجد كثير من المصالح المتلاقية، ولكنها أكثر تعقيداً في المجال السياسي. فالعرب يتوقعون أن تواصل روسيا دعمها لإقامة دولة فلسطينية، وأن تدعم بنشاط إنهاء الاحتلال العسكري الأجنبي، خاصة في سوريا، وأن تحد من النفوذ الإيراني في المنطقة، وتمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، وأخيراً وليس آخراً، وربما أكثر أهمية بالنسبة إلى غالبية الشعب العربي، أن تكون داعمة لا عائقاً أمام تطلعاته إلى الإصلاح السياسي الملموس المنظم، وهنا ربما يكون الاختبار الحقيقي في سوريا.
أما مصالح تركيا مع روسيا، فترتكز على مساعدتها في تأمين حدودها الجنوبية مع سوريا، إلى جانب تحقيق فوائد اقتصادية. وهنا، يبدو أن لدى الروس صيغة قد تقبلها في نهاية المطاف كل من أنقرة ودمشق، وهي اتفاقية أضنة معدلة، تأخذ في الاعتبار بشكل متوازن الشواغل الأمنية المستجدة لكل من سوريا وتركيا.
أما إيران، فتحتاج إلى روسيا لموازنة الدول الغربية. وتبقى الطاقة وآسيا الوسطى كمجالات أخرى ذات اهتمام مشترك. وقد وجدت إسرائيل في روسيا شريكاً غير تقليدي لصيانة أمنها القومي. والأهم من ذلك، يعتبر الشتات الروسي في إسرائيل من قبل كلا البلدين بمثابة أساس مهم لتطوير العلاقات في المستقبل.
باختصار، أصبح لكل من إيران وتركيا وإسرائيل مصالح مشتركة مع روسيا، وهي حقيقة يجب على موسكو أن تأخذها في الاعتبار عند صياغة استراتيجيتها المستقبلية في الشرق الأوسط.
وفي النهاية، فإن موسكو تدرك أن إقامة نظام شامل للأمن الإقليمي هي أفضل وسيلة لتأمين مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. ولكن حتى تحقيق ذلك، سيكون التحدي الأكبر أمام روسيا هو الموازنة بين مصالح الدول الإقليمية، وتوفيقها مع مصلحتها. ومع ذلك، فمن الممكن أن تستمر موسكو على نهجها الحالي، إذا قلصت الولايات المتحدة من اهتمامها بالمنطقة، واستمر الارتباك في سياساتها، وبقيت أوروبا مترددة غير قادرة على فصل سياساتها الإقليمية عن الولايات المتحدة، وإحجام الصين عن الانخراط بشكل فعال، لكن الأهم من كل ذلك هو استمرار الانقسامات بين العرب.

- سفير مصري مسؤول كبير سابق بالأمم المتحدة
- خاص بـ«الشرق الأوسط»