خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الكرخ والرصافة

كثيراً ما سألني إخواننا العرب عن هاتين الكلمتين: الكرخ والرصافة. ما المقصود بهما وأين مكانهما من الخريطة. والجواب عن هذا السؤال مهم للغاية لفهم العاصمة العراقية وسكانها وتاريخها وسياستها. وسيطيب لي أن أعطيه ما يكفي من الشرح.
عندما شيد أبو جعفر المنصور مدينة بغداد اتبع في تحديد موقعها نصيحة الخلفاء لجيوش المسلمين، وهو ألا يجعلوا ماء يفصل بينهم وبين الخليفة. فاختار المنصور أرضاً متصلة بالبادية، وكان ذلك جنوب نهر دجلة، الذي يفصل بين العرب والأعاجم. هناك بنى مدينته المدور. وهذه هي المنطقة المعروفة بالكرخ. ولكن بمرور الزمن وتكاثر السكان اضطر القوم إلى عبور نهر دجلة شمالاً فبنوا أحياء جديدة عرفت فيما بعد بالرصافة. توسعت فأصبحت هي الجزء الأكبر من بغداد.
ترتبت على هذا التقسيم الجيو - فيزيائي لبغداد نتائج مهمة. منطقة الكرخ المتصلة بالبادية والجزيرة العربية، غلبت عليها العروبة. وكان الكثير من سكانها من نجد. لقد ولدت ونشأت في زقاق «سوق الجديد». الكثير من سكانه نجادة. كانت تسكن في البيت المقابل لبيتنا امرأة عجوز نجدية وكانت تأخذ الماء من بئر في البيت. وإلى الغرب منها سكن بنو عقيل، قبيلة نجدية، واحتلوا مقاهيها (قهوة عقيل).
هذه المسحة العروبية أعطت الكرخ روح القومية العربية. الكثير من زعماء الحركة القومية في العراق، جاءوا من الكرخ، يوسف السويدي واجي السويدي وعبد الرحمن البزاز وأخيرا صدام حسين جاءوا من الكرخ.
جرى عكس ذلك في صوب الرصافة. فهذه المنطقة منفتحة نحو الشمال والشرق. استقبلت الكرد والعجم والترك والأرمن، فغلبت الروح الأعجمية على الرصافة. تحمل الكثير من أزقتها أسماء أعجمية كدربونة العجم وتبة الكورد وحارة الأرمن. إذا كانت الروح القومية العربية قد سادت الكرخ فالروح اليسارية والشيوعية والأممية قد سادت الرصافة، وفيها أقيمت الحانات والفنادق والسينمات ودور البغاء. كان عمي فايق يقول الكرخ هي آسيا والرصافة هي أوروبا.
ومنذ العهد العثماني، استقرت دور الحكومة (السراي – القشلة) والقضاء والأوقاف والسفارات الأجنبية والمكتبات والأسواق والبنوك في صوب الرصافة.
هكذا انقسمت بغداد إلى جانبين، أو كما يسميهما العراقيون صوبين. صوب الكرخ وصوب الرصافة، وبقي نهر دجلة يفصل بينهما. هناك الآن عدة جسور حديدية تربط بين الجانبين. وكان العباسيون أول من فطن إلى ضرورة الربط بينهما فشيدوا أول جسر خشبي يربط بين الكرخ والرصافة. ولعب هذا الجسر دوراً خطيراً في حياة السكان الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأدبية إلى يومنا هذا، وهو الموضوع الذي سنتطرق إليه فيما بعد.