خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

التحول الاجتماعي لمدينة بغداد

كما ذكرت في مقالتي السابقة، حدث تطور كبير في الجانبين من مدينة بغداد. ظل صوب الكرخ متزمتاً ومحافظاً ورجعياً يعم فيه الأشرار. وصفه الجاحظ بأنه موطن السفلة والعوام. أما الرصافة فأصبحت عاصمة كوزموبوليتانية أممية تنعم بدور اللهو والطرب والعلوم. ترتب على هذا التباين تباين في النظرة. الرصافيون يعتبرون الكرخيين متوحشين، والكرخيون يعتبرون الرصافيين فاسدين ومتفسخين. وانعكس هذا التباين في زي الطرفين. كان الكرخيون يعتمرون بالغترة، على عادة أهل البادية، فيما كان الرصافيون يضعون على رؤوسهم ما يسمى بالشراوية. خبرت هذا التباين شخصياً في أسرتي. فقد كان والدي كرخياً وكانت والدتي من أهل الرصافة. وأدى هذا إلى مشادات مستمرة بين الطرفين كثيراً ما أشير فيها إلى واقع هذا التباين.
لاحظ العباسيون هذه الفروق، فنقلوا السلطة إلى صوب الرصافة، الأكثر تمدناً، وبقيت هناك إلى يومنا هذا. غير أن هذه النقلة انطوت على خطأ عسكري وأمني. انتقلت الدولة من يد العرب إلى يد الأعاجم، كما أصبحت بغداد مفتوحة للغزو، ولم يعد نهر دجلة حامياً لها. هكذا دخلها هولاكو ومن تلاه من الفاتحين، فسقطت بيد الفرس عدة مرات. فلو تمسك العرب بنهر دجلة كحاجز دفاعي طبيعي، لصعب سقوط بغداد بيد الأعاجم.
وقعت ثورتان رئيسيتان في بغداد خلال القرن التاسع عشر. مثلت كل منهما الصفة المميزة للجانبين. جرت الأولى في صوب الرصافة عام 1832 عندما تدفق الجمهور من محلة قنبر علي بوحي من المفتي عبد الغني جميل زادة، وانطلقت نحو السراي في محاولة لاقتحامه، فتصدى لهم الحرس التركي بما أدى لمقتل العشرات من الطرفين. ثم أصدر الوالي العثماني أمره بضرب محلة قنبر علي بالمدافع، بما أدى إلى إحراق المكتبة الثمينة للمفتي وضياع نحو 6000 كتاب. ويقال إن هذه الانتفاضة جرت بوحي استقلال مصر في عهد محمد علي، وتقدم جيشه في سوريا.
جرت الانتفاضة الثانية بعد عامين في صوب الكرخ، وكانت قبلية في محتواها، إذ انطلقت من تمرد عشيرة العقيل واستقلالهم بالكرخ. وعندما حاول العثمانيون العبور لضربهم قطعوا الجسر، ولم يستطع الوالي الوصول إليهم إلا بعد استعارة يخت القنصل البريطاني في ضربهم. وعند عبور الأتراك للكرخ استباحوا سكانها.
وقد أسهب الدكتور علي الوردي، في وصف ما عاناه أهل بغداد من هذه الاضطرابات. ونظم مفتي بغداد قصيدة عاطفية يتوجع فيها لما تعرض له سكان الرصافة من عملية قمعهم بالمدافع وقال فيها:

طوينا من الزوراء لا در درها
بساطاً متى ينشر يعدونه طعنا
وإني وإن كنت ابنها ورضيعها
فقد أنكرتنا لا سقاها الحيا مزنا