إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

بعد أن تعولمنا

في سبعينات القرن الماضي، وجدنا أنفسنا في معمعة التصدي للغزو الثقافي. قيل لنا إن الغرب تخلى عن نزعته التقليدية في استعمار البلدان واحتلال أراضيها وصار ينتهج أسلوب الغزو الثقافي. إن علينا أن ننتبه ونفتح العيون لكي لا نقع في الفخ. أن نتمسك بلغتنا وقوميتنا وشواهد حضاراتنا. إن أساطير الأولين هي الملهم في الأشعار. وشخصيات التاريخ هم أبطال الروايات. والحرف العربي هو ما يمنح اللوحة هويتها.
ثم، ومن سماوات بعيدة، هبطت علينا العولمة بالمظلة. لم نفهم، في البداية، المقصود بها. ولأنها فكرة مستوردة فقد تجادل المترجمون في دقة الترجمة. هل الأصح «عولمة» أم «كوننة»؟ ومرت السنوات وتعولمنا، شئنا أم أبينا، وراح أبناؤنا يرطنون ونرطن معهم بلغة الإلكترون. نسي قادة الفكر دروعهم التي تقي من الغزو الثقافي. عادت حليمة الغربية إلى عادتها القديمة في الغزو الاقتصادي بل والعسكري. تراجعت فكرة القومية وانزوت فكرة الوحدة في زوايا الذاكرة. «وحدة ما يغلبها غلّاب». انقلبت الحماسة إلى سخرية. تشرذمنا وخجل مناضلو الأمس من سذاجتهم البائدة. وبينهم من يكابر وما زال يعانق مومياء محنطة.
يشعر المسؤولون بانسحاب الغطاء من فوقهم ومن تحتهم. تصدر في العديد من بلداننا قوانين وتُسنّ خطط للحفاظ على سلامة اللغة العربية. مسابقات في الخطابة والإنشاء والإلقاء من جهة، ومن جهة أخرى آباء وأمهات يدفعون دماء قلوبهم لكي يتعلم أبناؤهم اللغة التي تتحدث بها الخادمة الفلبينية والسائق الباكستاني. نستمع إلى الحوارات في المسلسلات المصرية فإذا بهم لا يقولون «إنجليزي» بل «إنغليش». لم يعد تأميم الثروات الوطنية هو ما يشغلنا بل استعادة ألسنة الأبناء والأحفاد.
دفعت الحروب والسياسات الخاطئة ملايين العرب إلى الخارج. يولد كل يوم أطفال يحملون جنسيات دول المهجر. عرب كنديون وعرب أميركان وألمان وإنجليز وفرنسيون وسويديون وأستراليون وعرب نيوزيلنديون. قليل منهم من يحافظ على اللغة الأم. يجتاح «أدب الهجرة» مواضيع الروايات العربية. يتوقف عنده النقاد وتصدر عنه الأطروحات وتُقام له الندوات. وفي إحداها التقيت بآية جلبي. شابة عراقية هاجرت مع أسرتها إلى فنلندا ونشأت فيها. كانت تكتب رواية بالعربية. أحببت موهبتها وفرحت بها. ولا أدري أي شيطان دفعني لأن أنصحها، وقلبي يوجعني، أن تكتب بلغة البلد الذي تقيم فيه. لعل ذلك يفتح لها مجالاً لا يتوفر لمن يكتب بلغتنا. الكاتب عندنا مهضوم الحقوق. وهو يدفع من جيبه لصاحب دار النشر.
نشرت رأيي في «فيسبوك». واستعرت مثلاً شعبياً وقلت إن الكاتب العربي «يركض والعشا خبّاز». والخبّاز نبتة عشبية تنمو بوفرة، تلقائياً، في الحقول. وسرعان ما جاءني رد من الشاعر والناشط الحقوقي الشاب صفاء السراي. قال: «إن الكاتب الذي لا يكتب بلغته ولناسه، متناسياً المنافع المادية والشهرة، فإن كتابته أقرب للقمامة. وإن لم تكن الكتابة وجهاً آخر للوطن فهي مجرد حروف لا نحتاجها. مع الود الكبير». ولعل صاحب التعليق شعر بقسوة كلماته، فعاد وأرف بتعليق ثان جاء فيه: «منذ لحظة ولادتي السوداء في سنوات الحصار، مروراً بالحرب الأهلية والطائفية، مروراً بالمفخخات والكاتم والخطف، مروراً بـ(داعش)، مروراً بقمع الحكومات ومطاردتها، أركض يا سيدتي».
كان ذلك في 19 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وبعدها بعشرة أيام استشهد صفاء السراي. مات في مستشفى الجملة العصبية في بغداد مختنقاً بقنبلة مسيلة للدموع. وتناقلت وكالات الأنباء وكبريات الصحف في العالم صورته. صار بين ليلة وضحاها «أيقونة الثورة العراقية». هذا عصر العولمة. وإليه ستهدي آية جلبي روايتها حين تجد ناشراً عربياً.