حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

لأن النكبة شاملة رهان اللبنانيين على الثورة

.. ونالت حكومة الأقنعة، المؤلفة من «اختصاصيين» ثقة برلمان أقله مطعون بشرعيته، وفي أول اجتماع لها، لجأت إلى تشكيل لجنة من أهل الاختصاص للدراسة والاقتراح! وكان البلد يموج بالأحاديث عن المواقف المفترضة حيال الانهيار العام، بعدما انكشف المستور المتمثل بتهريب 27 مليار دولار إلى حسابات في الخارج خلال العام 2019، تعود إلى كبار القوم من مسؤولين وأصولهم وفروعهم ومعهم كبار المصرفيين! وتم ذلك وسط خداع اللبنانيين من خلال تطمينات المصرف المركزي وجمعية المصارف بشأن سلامة الوضع المالي وسعر الصرف. وتوّج «الكارتل المصرفي» سلوكه بإقدامه في الأسابيع الأخيرة على بيع كمية سندات يوروبوند يحملها لجهات خارجية، بحيث وُضِعَ البلد أمام حلول مرة، إنْ لجهة الامتناع عن الدفع وأبعاده، أو لجهة الدفع وما سيستتبعه من دفعات تنهي موجودات المصرف المركزي، وهي جزء من ودائع المواطنين، لا يجوز استخدامها إلاّ لتأمين الرغيف والدواء! فصدر تحذير عجيب غير مسبوق عن رئاسة مجلس الوزراء ينهى المواطنين عن تناول الشأن المالي (!) فبدت هذه السلطة مجرد واجهة للممسكين بالقرار لا تجرؤ على مواجهة الناس بعدما استهلكت ومن شكلها كل الفرص.
تمسك الجمهور الواسع المنتشر في كل الساحات والمتمتع بالثقة الشعبية المستمدة من شرعية «17 تشرين» بمطلب محوري يتمثل في قيام حكومة انتقالية مستقلة قادرة على مواجهة رموز نظام المحاصصة الطائفي وفسادهم، وتكون مؤهلة لابتداع الحلول لأزمة هي سياسية أصلاً، متأتية من استيلاء «حزب الله» على قرار البلد، والارتهان لنظام ملالي طهران، الأمر الذي وضع لبنان تحت مقصلة الحصار والعقوبات كما الحال بالنسبة لإيران وسوريا، ما سرّع من الانهيار المالي - الاقتصادي، وقد تسببت المنهبة المنظمة في اهتزاز الاستقرار الاجتماعي. هنا أطل صاحب القرار، الأمين العام الأشهر، بمطالعة حملت إقراراً صريحاً بأن «حزب الله» هو الجهة المسؤولة عن قيادة نظام المحاصصة الطائفي، ودعا من هذه الزاوية إلى جمع صفوف الطبقة السياسية من أجل «تشكيل لجنة من الموالاة والمعارضة تتولى إنقاذ لبنان، والأولوية لإنعاش الوضع الذي يهدد الجميع»، وهو بذلك يعلن عن تهميش دور الحكومة ومكانتها، وهي التي ما كانت لتبصر النور لولا الغطاء الذي وفّره لعملية التأليف!
وبعدما أدرك حجم الأعباء والعجز عن النهوض بها، بهذه التوليفة الحكومية الممثلة لرموز الممانعة، ذهب نصر الله بعيداً في آخر طروحاته حيال الشركاء في التركيبة الطائفية، والتي صيغت تحت عنوان الشراكة في تحمل المسؤولية، فقال إنه ليس صحيحاً تسمية هذه الحكومة بحكومة «حزب الله»، هذا لا يؤذي الحزب، «لكن يؤذي لبنان وإمكانيات المعالجة وعلاقات لبنان العربية والدولية»، متجاهلاً كل تاريخ إرغام لبنان على التموضع في خانة الصدام مع العرب ومع الغرب.. فيما يعرف القاصي والداني أن الوجه الآخر لقيام حكومة مستقلة عن الأحزاب الطائفية تحوز الثقة الشعبية إنما يكون في استعادة مفاتيح العلاقة السليمة مع دول الخليج والغرب، وبالتأكيد الولايات المتحدة؛ حيث بات جلياً أن لا تفهم ولا دعم من دون مقابل سياسي. وفي هذا المقابل مصلحة لبنانية، لأنه يفترض الالتزام بقرارات الشرعية الدولية، وهو ما شددت عليه مجموعة الدعم الدولية عندما ذكّرت المسؤولين بالقرارين 1559 و1701، وبالتالي بسياسة النأي بلبنان والعودة إلى إعلان بعبدا، وليس أمراً بسيطاً تجاهل العرب والغرب لحكومة الأقنعة، وامتناع سفراء دول الخليج حتى تاريخه عن زيارة ساكن القصر الحكومي!
كان رئيس الحكومة قد وعد بجولة خليجية بعد الثقة، ربما أراد من ذاك الطرح استدراج زيارة سفير أو اتصال ما، فجاءه «الغنم» من طهران مع زيارة علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الإيراني، وهو أول مسؤول خارجي يزور لبنان في هذه الفترة الثورية من تاريخ لبنان وبعد نيل الحكومة الثقة. الزيارة التي لا يمكن أن تتم دون توجيه من المرشد، وتشجيع من «الحرس الثوري»، وشملت تباعاً دمشق وبيروت وبغداد، بدت وكأنها أشبه بتفقد ولايات تابعة، لحشد الأوراق ارتباطاً بالمواجهة مع الأميركيين والصراع الإقليمي ولترميم أوراق القوة الإيرانية بعد مقتل قاسم سليماني.
في هذا السياق شكلت الزيارة وما رافقها من لقاءات على أعلى مستوى، وإعلان لاريجاني أن «حزب الله» بمثابة «كنز»، تأكيداً متجدداً على تموضع لبنان، فبدت دعوة نصر الله «حديث ليل محاه النهار»، وأكثر من ذلك فإن كل المقاربة التي حاول «حزب الله» التأشير عليها تبدلت مع حجم التحديات التي رتبتها الزيارة، والأمر الذي لا شك فيه هو أن القيادة الإيرانية التي تشتري الوقت لن تفرط في ما تعتبره أوراق قوة لها، ومنها المزيد من خطوات استتباع لبنان، وآخر الهموم الإيرانية أن يبقى لبنان معزولاً وحيداً في مواجهة أصعب انهيار يواجه تحديات مجاعة باتت من يوميات اللبنانيين.
عندما صدعت ثورة الكرامة تسوية العام 2016، قالت بالفم الملآن إنه لا ثقة بالحكومة التي شكلتها القوى الطائفية، وإنه لا خروج من الساحات إلاّ بعد تبلور منحى التغيير السياسي الكامل، لأن في ذلك ضمانة لمسار الخروج من الأزمة، ما يتطلب بداية قيام حكومة مستقلة عن الأحزاب الطائفية، تأخذ البلد إلى مرحلة إعادة تكوين السلطة، وقالت الثورة ولو بأصوات عديدة إنه يستحيل على من تسبب عن سابق تصور وتصميم في انهيار البلد أن يتولى عملية الإنقاذ.
ولأن النهج المبرمج في نهب البلد وإفقاره أدى اليوم إلى تراجع مريع في قيمة صرف الليرة اللبنانية بلغ نحو 75 في المائة، وانهارت بالتالي موازنة الأسر، بدا كل ما تطرحه الثورة على طرفي نقيض مع كل السياسات التي اتبعت منذ نهاية الحرب الأهلية، وتسببت في تسهيل وضع البلد تحت الاحتلال السوري ولاحقاً الإيراني من خلال استئثار «حزب الله» بالقرار، ما بدا معه أن لا ضمانة لتحقيق المطالب الأولية للمواطنين واستعادة كراماتهم، إلاّ بقيام سلطة بديلة تعيد الاعتبار إلى الدستور ومندرجاته، فتكون في موقع القدرة على استعادة استقلالية القرار وبسط سيادة الدولة دون أي شريك.. وما الرهان الكبير من الناس على الثورة إلاّ لأنها ولّدت قناعة واسعة أن تجذرها يحمل للناس مفاتيح الأبواب الموصدة!