سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

لولا اختلاف العقول لا الأذواق!

هات المصحف واقرأ الآية 118 من سورة هود في القرآن الكريم، وسوف تجد أنها تقول: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين».
والغالب أن ما سوف يخطر على البال تلقائياً عند قراءة هذه الآية، أن الاختلاف الذي تتحدث عنه في كلماتها القليلة، هو في الدين أساساً. فهذا إنسان يهودي، وذاك إنسان مسيحي، وبعدهما إنسان مسلم. وربما يذهب الفهم إلى أن الاختلاف المشار إليه، هو كذلك بين الذين يؤمنون بالديانات غير السماوية التي تنتشر على رقعة واسعة في جنوب شرقي آسيا!
ولن تجد اختلافات كثيرة بين تفاسير القرآن، وهي تحاول فهم وتوضيح هذا المعنى في الآية على هذا الأساس وحده، ولكنك بالتأكيد سوف تصادف أصحاب عقول قلائل تصدوا للتفسير، فقالوا إن الاختلاف بين خلق الله ليس من الضروري أن يكون في هذه الزاوية بالذات، بحيث يتوقف عندها فلا يغادرها، ولا يذهب لمدى أبعد في أرض أخرى غنية بالمعاني!
سوف تصادف رجالاً ممن فسروا، فقالوا إن الاختلاف المقصود يمكن أن يكون في الدين، هذا صحيح، ولكنه يمكن جداً أن يتسع ليشمل ليس فقط الاختلاف في اللون، أو في الطول، أو في الشكل، على سبيل المثال، وإنما يمتد ليشمل الاختلاف في الرؤوس، وبالتالي في محتوى ومضمون هذه الرؤوس، وفيما يجوز أن تحمله في داخلها من عقول!
وعندما تبدأ الآية في السورة المذكورة بصيغة «ولو شاء ربك» فالمعنى البديهي الذي يقفز إلى عقلك على الفور، هو أن الله - تعالى - جعل ذلك الاختلاف لحكمة محددة أرادنا أن نلتفت إليها. والحكمة هي في ثراء التنوع، وهي في قدرة التنوع الذي هو ابن أصيل للاختلاف، على أن يجعل من حياة الإنسان على الأرض حياة فيها من الثراء، بقدر ما فيها بالضبط من الاختلاف ذاته على مستوى الرؤى، ومستوى الأفكار، ومستوى التصورات، ومستوى وجهات النظر بين البشر!
وفي الأسطورة اليونانية القديمة، نقرأ أن رجلاً أقام نُزلاً على طريق، وأن هذا النُّزل - الذي يعني الفندق في لغة أيامنا العصرية - كان يستقبل الذين يرغبون في الراحة من عناء السفر، ونقرأ أن كل غرفة من الغرف كانت مجهزة بكل ما يوفر راحة المسافر، وأن السرير الذي سيحصل فوقه النزيل على راحته من النوم، كان هو الشيء اللافت في الغرف كلها بغير استثناء!
كان هو الشيء اللافت؛ لأن كل سرير كان قد جاء صورة طبق الأصل من الآخر، ولكن في شيء واحد ووحيد. فكل السُرر كانت مختلفة من حيث الشكل، وكانت متباينة من حيث الارتفاع عن الأرض، ومن حيث العرض بين جانبيها، ولكنها كانت متماثلة تماماً من حيث طولها، بما يعني أن كل نزيل كان عليه أن يوائم بين طول قامته وبين طول السرير!
وتذهب الأسطورة في نهايتها إلى أن صاحب ذلك الفندق القديم، كان كلما جاءه نزيل جديد ذهب فوراً إلى تهيئته للمبيت، وكانت عملية التهيئة هي الأغرب في تاريخ الفنادق التي عرفها العالم، قبل اليونان وبعدهم؛ لأنها كانت تتم على أساس مط النزيل الذي يتميز بقصر القامة، ليكون على قدر السرير بالتمام، وكذلك جز النزيل طويل القامة ليتناسب طوله مع قواعد المكان وتقاليده!
وكان المعنى الذي تحمله الأسطورة في جوهرها، أن ما كان صاحب النُّزل يريده في كل ضيف يقصده، هو على النقيض من طبائع البشر التي أراد الخالق أن يكون الناس عليها، وأن افتراض الطول الواحد في بني آدم جميعاً، ثم السعي إليه، هو أمر يتعارض مع طبيعة الإنسان، وأن التدخل الجراحي الذي كان الرجل يسارع به مع كل طالب غرفة، هو أبعد ما يكون عن طبيعة الإنسان!
وعلى العكس من الأسطورة على طول الخط، جاءت الآية وقالت معناها المقصود. ولو شاء خالق الكون - كما تقول الآية أيضاً - لكان الخلق قد جاءوا على ما كان بطل الأسطورة عند اليونان يفكر فيه، ولذلك عاشت الأسطورة؛ ليس لصواب معناها، ولكن لتشير في كل مرة نقرأ فيها عنها إلى صدق الآية!
وإذا كان بطل الأسطورة قد ساوى بين ضيوفه في طول القامة، فالمستحيل هو تشكيل عقولهم على نسق واحد؛ لأن علماء النفس متفقون على أن عشرين في المائة من الناس في كل بلد أذكياء، ومثلهم أغبياء، بينما يقع ستون في المائة في المنطقة متوسطة الذكاء، وهذه هي قسمة الله التي قسم عليها الخلق، ومن النادر أن تختلف هذه النسب بين بلد وآخر، صعوداً في نسبة منها أو هبوطاً في أخرى!
ولو أنت ذهبت تحصي كل المحاولات التي أراد فيها بعض الحكام على امتداد التاريخ، أن يصنعوا من شعوبهم إنساناً واحداً، يفكر بالطريقة نفسها، ويتصرف بالأسلوب ذاته، ويمشي الخطوات هي هي، فسوف تكتشف أن ذلك لم يكن له نصيب من نجاح، وأن كل الذين تخيلوا نجاحه قد خانهم التقدير، بمثل ما خانهم الذكاء في فهم سنّة السماء في أهل الأرض!
والاختلاف الذي رسخت له الآية، والذي لم تحترمه الأسطورة، ليس من أجل وقوع الخلاف بين أصحاب العقول، ولكنه في سبيل أن تتكامل الحياة فوق ظهر هذا الكوكب، وأن يكون ما لديك من تقدير، أو رأي، أو تخيل، هو مما يكمل ما لدى الآخرين على السواء!
وفلاسفة العقل الكبار لم يكونوا في حاجة إلى قراءة الآية في القرآن، ليدركوا هذا المعنى ويتمسكوا به إلى آخر العمر، وقد كان فولتير في فرنسا واحداً في المقدمة من هؤلاء الفلاسفة، وكان قد عاش داعياً إليه على الحدود بين بلاده وبين سويسرا، ولا يزال هناك بيته، ومتحفه، وأوراقه، ومعها مسوّدات أعماله لمن شاء أن يراها معروضة في المتحف على الحدود!
كان كلما ضاقت السلطات في فرنسا بأفكاره في الاختلاف، وفي الانتصار له، وفي الوقوف إلى جواره، عبر إلى الجانب السويسري، فإذا ضاقت به الحكومة السويسرية، ترك لها البلد وعاد إلى الأراضي الفرنسية، وهكذا عاش آخر سنوات حياته كلها هارباً بالأفكار الحرة إلى حيث يجد أجواءها المناسبة!
وليس بيننا صاحب عقل هذه الأيام، إلا وهو باحث عن أجواء من نوع ما قضى الفيلسوف الفرنسي أيامه يطاردها بين البلدين!
والعبارة التي تقول إنه «لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع»، هي عبارة لها شق آخر أهم، يقول إنه لولا اختلاف العقول، لغاب عن الحياة سرها الأكبر الذي أودعه فيها خالق الكون. هذا الشق الآخر هو شق غائب عنا، ولا بد من أن نظل نردده لنستحضر معناه ونستدعيه!