رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

جراحات الهوية وإحراجاتها ومكافحتها

التقت شخصياتٌ فكرية ودينية وسياسية بدعوة من رابطة العالم الإسلامي - بمقر الأمم المتحدة في جنيف لمناقشة قضايا التطرف العنيف.
الموضوع ليس جديداً. لكنّ المدعوين قالوا فيه جديداً كثيراً من وجهات النظر الأنثروبولوجية والسوسيولوجية والاستراتيجية. وقد ذكر الدكتور محمد العيسى رئيس رابطة العالم الإسلامي كلاماً في البداية والنهاية يضاهي في أهميته ما ورد في ديباجة وثيقة مكة المكرمة.
الأجانب الذين شاركوا ركّزوا على مشكلات الهوية، ومن ضمن ما ذكروه أنّ التهابات الهوية وأمراضها لا تقتصر على المسلمين، وامتدت منذ زمن إلى الهويات الدينية والإثنية والجهوية واللغوية الأخرى. بيد أنّ ذلك لا يعني أنّ الأمر صار واضحاً فيما يتعلق بتعريف الهوية أو مقتضياتها وآثارها. فحتى الإرهاب على الاختلاف في تعريفه، يبقى أكثر وضوحاً. فعندما يقتل تنظيم بوكو حرام في نيجيريا أو البلدان المجاورة نقول بوضوح إنّ هذا إرهاب، أياً يكن خلاف الدوليين في التعريف، ولا بد من مكافحته. وكذلك عندما يقتل عساكر ميانمار أقلية الروهينغا أو يهجِّرون نساءها وأطفالها، فلا أحد - وإنْ بعد ترددٍ طال أحياناً - يتجاهل أنّ هذا إرهاب دولة فظيع، من جانب تطرف ديني وإثني ودولتي. إنما متى يمكن نسبة هذا الارتكاب أو ذاك إلى الهوية المجروحة حقاً وبالفعل؟ مع أننا نعرف جميعاً أنّ نزاعات الهويات أو إحساساتها يمكن أن تُصنع كما يمكن أن تُستغلّ. وقد أطلعنا فوكوياما في كتابه عن الهوية (2016) على حالاتٍ كثيرة بالولايات المتحدة وفي الدول الأُخرى، اصطُنعت فيها الهويات من أجل أغراض سياسية مباشرة. فما أُريد الوصول إليه أنه ينبغي النظر بدقة في مساعٍ صغرى في الأصل في العمل على الهوية من جانب أقليات سياسية، أدت إلى استنفارٍ شاملٍ باسم الهوية كسب منه السياسيون مثلما حصل في الهند، وباستغلال الإنجيليات في الولايات المتحدة، والتحبب إلى العوام باسم الدين في عدة بلدان عربية وإسلامية. إنّ علينا أن نتنبَّه إلى وجوه الاستنزاف والاستغلال في وسائل الإعلام والتواصل، وإن لم يكن باسم الهوية المتوهجة فيما يؤدي إليها مثل القضايا المطروحة علينا من خارج، أو المطروحة نتيجة انقسامنا وحطّ بعضنا على بعض. والقضية الفلسطينية هذه الأيام خير مثالٍ على ذلك. أما مسألة الأقليات المسيحية والإثنية فهي تؤخذ على العرب من خارج - وكلتا المسألتين يلعب عليها أهل الهوية، وليس بقصد العدالة أو الكرامة، بل للمزايدة والاستغلال، باعتبار أنّ السياسات الدولية تعتبر ذلك أموراً مهمة، وبخاصة لدى ما صار يُعرف بالمجتمع المدني العالمي.
أما الأمر الآخر الذي له علاقة بالهوية، فهو الآثار السلبية التي تولدت لدى العرب والمسلمين، نتيجة توهُّج الهوية الإسلامية واشتعالها. لقد قال مسيحيون ويهود مشاركون في لقاء الرابطة بمبنى الأمم المتحدة بجنيف إنّ العولمة وضغوطها صنعت مشكلات هوية في سائر الأديان، بما في ذلك تلك التي ما عرفت ذلك من قبل مثل البوذية والهندوسية. وأنا لا أقصد أنّ على العرب والمسلمين ألا يعترفوا بمشكلات التطرف باعتبار وجوده عند كل الآخرين. بل المقصود ألا يقتصر الأمر لدينا على الاعتراف بالذنب في التطرف والإرهاب، وقد فعلْنا ذلك مئات المرات، بل أن نبدأ بالتجاوز لمشاركة العالم في مناقشة مسائل الهوية والعلاقات بين الأديان، والأخلاق العالمية، والأخوة الإنسانية، وكيف يمكن تطوير وقود الحوار الإسلامي - المسيحي باتجاهها. فهناك جدول أعمال للمجتمع المدني العالمي جوهره الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وينبغي المُضي باتجاهه.
وأقول هذا كلّه، للوصول إلى الأمر الثالث، أمر التغيير الديني أو الإصلاح الديني أو السردية الجديدة في الدين. لقد شارك العرب والمسلمون في الحرب العالمية على الإرهاب، باعتبار أنّ التطرف العنيف أضرّ بدُوَلهم ودينهم أكثر مما أضرّ بالآخرين. ومن جهة ثانية شاركوا في الردود الدينية والفكرية والإجرائية. لقد صدرت إعلاناتٌ وبياناتٌ ووثائق على الانفراد أو بالمشاركة مع الجهات الدينية والمدنية والدولتية العالمية. وفي عشرات الدول العربية والإسلامية جرى تغيير برامج التعليم الديني. وجرى إنشاء معاهد لتدريب الأئمة. وانضبطت خُطب الجمعة، وخطابات المناسبات والمؤتمرات الدينية. ولا شكّ أن ذلك كلَّه ترك تأثيراته وإن كانت بطيئة. فبِعلَّة عدم نجاح المشروع القتالي لابن لادن والبغدادي، ولأنّ المسلمين جميعاً على وجه التقريب رفضوه، كما ظهر في بياناتهم ووثائقهم وإجراءاتهم؛ فإنّ تشكُّل أجيال جديدة من المتطرفين صار أصعب بكثير.
إنما الذي يبقى وينبغي التفكير فيه أنّ الديانات الإبراهيمية، وفي طليعتها الإسلام شهدت وستشهد إحيائيات دينية باتجاه التطرف وربما أيضاً باتجاه العنف. فللتطرف أو الشذوذ على «الأعراف المستقرة» كما يقول الماوردي، أسباب ظرفية، وأخرى متعلقة بطبيعة الدين أو الاعتقاد. وما أقصده بالتغيير الضروري ليس في مجال الاعتقاد بالطبع، بل في مجال مقتضياته وهو الذي يسميه المسيحيون لاهوتاً، ونسميه نحن علم الكلام أو العقيدة أو التوحيد أو أصول الدين. فلكل دين ما يسمى باللاهوت العقلي الذي يدافع عن العقيدة تجاه الديانات الأُخرى، ويتعلمه الصغار والفتيان وبخاصة الذين يتابعون الدراسات الدينية. والحنابلة والسلفيون لا يقولون به، لكنهم يتحدثون في أصول الدين ويذكرون مقتضياتها التفصيلية. وفي أي حال فإنّ هذه المقتضيات أو المتفرعات في أصول الدين هي التي ينبغي أن ينالها التأويل أو الإزاحة أو إعادة القراءة.
في القرن العشرين جرت تغييراتٌ كبرى في الفروع الفقهية لتسهيل حياة الناس. وهذا أمرٌ جيدٌ ينبغي متابعته. أما في المقتضيات العقدية الكلاسيكية فما كان هناك تفكير كثير.
دعا بعض العلماء إلى علم كلام جديد. ودعا آخرون إلى إزالة الأشعرية أو السلفية. وكلُّ ذلك ليس ملائماً ولا يلقى التجاوب والقبول. الإحيائيون والجهاديون عقائديون، وحتى الفروع الفقهية يرتّبونها على العقيدة. فتطبيق الشريعة عقيدة وتكليف. والدولة الإسلامية عقيدة. والتكفير الصاعق الذي يتولونه بما في ذلك سفك الدم، وإحراق الناس يبدو كأنما هو ناجمٌ عن النصوص وعن الذنوب المكفِّرة. فلا بد من إصلاحٍ ديني جذري، يُخرجُ ديننا من إمكانيات الاستغلال والابتزاز وصناعة الحرب على المسلمين وعلى غيرهم. ويبدو ذلك غير ممكنٍ ما لم تظهر تأويلاتٌ وإعادة تركيب أُخرى لمقتضيات الأصول. وعلى سبيل المثال، من زمان ينبغي أن ينتهي التجديد الكلاسيكي لدار الإسلام ودار الحرب أو تقسيم العالم على هذا الأساس. وقد دعا لذلك علماء كثيرون منذ مائة عام. لكنّ «داعش» استطاع استعمال المفهوم، ووافقه عليه شبان كثيرون، بل وبعض من يسمون أنفسهم: فقهاء؛ يكون عندنا مشكلة كبرى بالفعل.
إن المساحة التأويلية للنصوص والأحداث من جهة، والتركيب أو الإنشاء لمنظومة كلامية، من أجل تغيير رؤية العالم - كلُّ ذلك ضروري لتأهيل أنفسنا وفكرنا الديني لمواجهة التحديات العولمية الهوياتية التي لا يكفي فيها فقه الفروع، بل ينبغي أن تتناول فقه الدين وماهيته ودوره ووظائفه وموقعه في جدول أعمال المعروف العالمي. إنّ هذا هو الذي تدخل فيه وثيقة الأخوة الإنسانية (شيخ الأزهر والبابا)، ووثيقة مكة المكرمة (رابطة العالم الإسلامي). فلا ينبغي التردد من أجل بلوغ الأهداف الثلاثة: السكينة في الدين، وتجديد تجربة الدولة الوطنية، وإصلاح العلاقة بالعالم.