د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

وزارات السيادة

هل صحيح أن وزارات السيادة تنحصر في وزارتي الداخلية والدفاع بشكل أساسي، وتتلوهما في السيادة وزارة الخارجية؟
نعتقد أن هذا التمييز التاريخي لفائدة هذه الوزارات الثلاث في تمثلات النخب السياسية الحاكمة في معظم بلداننا العربية يحتاج إلى وقفة تأمل وتفكير ونقد ونقاش.
طبعاً لا شك في أن الوزارات المذكورة جديرة بمرتبة السيادة، وذلك للمهام والوظائف المهمة والدقيقة التي تقوم بها: وزارة الداخلية تحفظ الأمن، ووزارة الدفاع تذود عن الوطن ضد الأخطار المحدقة به، والخارجية هي صورة الدولة بين الأمم وفي الخارج.
كل هذه الوزارات هي فعلاً وزارات سيادة، دون شك.
السؤال هو: هل الصفة السيادية تشمل هذه الوزارات فقط؟ وهل هذا التصنيف ينسحب على جميع الدول والنخب والشعوب؟
الواضح، والذي يمكن أن نجزم بشأنه، هو أنه في بلداننا وإلى اليوم لا صفة سيادية إلا لهذه الوزارات، وذلك سواء في المخيال والتمثلات السياسية، أو في واقع الممارسات السياسية.
فالخلافات بين الأحزاب والصراع على الحقائب الوزارية تدور أولاً وتحديداً وآخراً حول هذه الوزارات، وبشكل أكثر دقة حول وزارتي الداخلية والدفاع. وكما نلاحظ، تهتم هاتان الوزارتان بالأمن؛ سواء في داخل الوطن أو في خارجه.
إذن يمكن القول إن التمايز بين الأحزاب يُحدّد بناء على مَن سيتولى حقيبة الداخلية أو الدفاع. وبعيداً عن هذه الوزارات، فبقية الحقائب لا تشكل مجال صراع قوياً. أما الوزارات الفارغة من كل صفة سيادية تقريباً في غالبية بلداننا، فهي وزارة التعليم ووزارة الثقافة.
وهنا قلب المشكلة، ومكمن الداء، مع الأسف.
المفروض في بلدان تعرف مشكلات عدة وفي طور البناء والتحديث أن تكون كل الوزارات سيادية، لأن كل وزارة تهتم بحقل اجتماعي مهم. وبنيوياً، فإن مجتمعاتنا تحتاج إلى وظائف جميع الحقول الاجتماعية، والمؤسسات، حيث المنشود يفوق المنجَز في كل الأطر المنتجة والمحددة والمتحكمة في الفعل الاجتماعي.
بل إنه في مجتمعاتنا لا يمكن التسامح مع السياسات التي لا ترى في وزارتي التربية والتعليم والثقافة وزارتين سياديتين، وذلك لأن هذه السياسات تعبر عن عدم فهم لما ينقصنا ولما نحتاج إليه؛ سياسات تكشف عن خلل عميق في قراءة الواقع العربي، ومن ثم في ضعف القدرة على المعالجة.
لا شيء يمكن أن يجعل الأمل قوياً وصادقاً مثل اعتبار التعليم والثقافة من وزارات السيادة، والبرهنة على هذه السياسة رمزياً، ومن حيث الميزانيات التي تُخصّص لهما.
فالمشكل الجوهري هو بناء الإنسان العربي، والتعليم والثقافة يمثلان مؤسستين أوليين للبناء والتنشئة.
طبعاً لا ننكر أن هناك خطوات تحققت في مجال التعليم، ولكن وضع المؤسسات التربوية اليوم في جزء كبير من دولنا يطلق صيحة فزع، وتحديداً التعليم العمومي، الذي لم يستطع، بسبب الميزانيات الضعيفة، أن يتطور، إضافة إلى الرواتب المتدنية للمعلمين والأساتذة، الأمر الذي جعل صورة المربي تفقد جاذبيتها الاجتماعية تماماً، كما بدأ يفقد التعليم مكانته الرمزية بوصفه مصعداً اجتماعياً إلى الوجاهة والقيمة.
أما الثقافة، فهي المأزق الحقيقي، وهي أكثر تردياً من التعليم، لأن التعليم على الأقل إجباري، وتغلب على مشكلاته الأسباب المادية، ولكن الثقافة ظلَّت مهمَّشة، وتُمارَس كنوع من الضجيج، ومحاولة إظهار اهتمام بالثقافة من خلال الأنشطة، دون الاهتمام بجوهر الثقافة والسعي إلى التأسيس والتصرّف، من منطلق أن الأزمة ثقافية بالأساس، وأن حل المشكلات الأمنية والاقتصادية والسياسية، وكل أنواع المشكلات الموجودة والممكنة هي، في جزء مهم منها، ثقافية.
فالجدية ونظرتنا إلى العمل وكيفية التعامل مع الكفاءات وكيفية ممارسة السياسة وأين تقف الواقعية والبراغماتية وأين يبدأ الغش... كل هذه ثقافة، ونخبنا لا تعلم ولا تتنبّه لذلك.
أظنّ أن أول إشارة تؤكد لنا أن مجتمعاتنا سلكت الطريق الصحيحة المؤدية للتقدم الحقيقي، والمؤسَّسة على رؤية جديدة، هي تلك التي نلتقطها عندما نرى في يوم ما في دولنا أحزاباً تتصارع حول حقيبتي التعليم والثقافة، ويكون الصراع من أجل برامج تربوية وثقافية وتصورات تنهض بالإنسان قيمياً وثقافياً، باعتبار أن هذه النهضة الثقافية هي الأساس، وهي التي ستحدد أداء الفرد في مجتمعاتنا سياسياً واقتصادياً وغير ذلك.
نعتقد أنه عندما تنتهي كل المعضلات في مجتمعاتنا ولا تظل إلا معضلة الأمن، ساعتها يمكن أن نمارس نوعاً من التمييز الإيجابي لصالح وزارتي الداخلية والدفاع. أما حالياً، فنحن لا نزال في حالة نقص أمني ثقافي وتعليمي واجتماعي، مما يحتّم إعلاء شأن وزارتي التعليم والثقافة، لأنهما الضامن لإنتاج أجيال مستنيرة، وتحتكم إلى العقل وتحترم قيم الحرية والمساواة والتعدد الثقافي والحضاري.
ساعتها، حتى الحاجة إلى الأمن الذي توفره وزارة الداخلية ستكون أقل، ولن تنجح الجماعات الإرهابية في تجنيد شبابنا، كما نجحت.
نركز على التربية والثقافة، لأنهما أساس بناء الإنسان العربي، دون أن يفوتنا ما تمثله الحقائب الاقتصادية من سيادية في زمن دولي السيادة فيه للأقوى اقتصادياً.