علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

عن مشايخ الجاوا والمطوّفين

لمّا وصلت عريضة المطالبة إلى الملك عبد العزيز آل سعود بإعدام محمد حسن عواد أو سجنه لمدة طويلة أو نفيه من السعودية، يقول محمد حسن عواد في الحوار الصحافي الذي أجراه معه خالد تاج سلامة: «بعث جلالته –رحمه الله– العريضة إلى ابنه جلالة الملك فيصل –رحمه الله– كما بلغني عند قراءة العريضة، وطلب الأستاذ كامل القصاب الذي كان يقوم بشؤون إدارة المعارف... فأخذ الشيخ كامل القصاب العريضة ومعها تعليمات زوّده المغفور له الملك فيصل –رحمه الله– بها وطلب منه أن يجمع هؤلاء الناس الذين كتبوها... يخبرهم أن الموضوع لم يصل إلى هذا الحد، فالنفي لا يمكن، وكذلك الإعدام والسجن المؤبد. وقال –رحمه الله– كيف نطبّق هذا على شاب حديث السن كتب آراءه، ولم يخالف القانون المطبّق في البلد، وبالتالي لم يصنع أي ضرر، وإنما هي أفكار كُتبت بالقلم، فإذا أردتم أن تحاربوه، فحاربوه بالقلم نفسه، حاربوه بالسلاح نفسه الذي حاربكم به، وهذه آراؤه وتلك حججه، فالمجال مفتوح أمامكم، اكتبوا وألّفوا وانشروا في الجريدة الرسمية وفنّدوا هذا النقد... وعلى هذا امتثل الشيخ كامل القصاب لأوامر الفيصل –رحمه الله– وجمع أصحاب العريضة المطولة في مكتبه وأخبرهم بما قاله الفيصل عن رغبة جلالة المغفور له الملك عبد العزيز –رحمه الله– فسكتوا وانتهت الضجة التي أُثيرت بهذا الحل. بعد ذلك أراد الملك عبد العزيز –رحمه الله– أن يصنع شيئاً بمثابة التوازن بيني وبينهم فكلّف رئيس تحرير جريدة (أم القرى) الشيخ يوسف ياسين –رحمه الله– بأن يكتب شيئاً عن هذا الكتاب، وعن هذه الحالة، فقام الرجل وكتب التسوية بطريقته الخاصة، فوجه نقداً كبيراً إلى الكتاب ممثلاً في عشرة مقالات نُشرت على التوالي في عشر حلقات في جريدة (أم القرى)».
في مقاله الأول في الرد على كتاب محمد حسن عواد «خواطر مصرحة»، يقول يوسف ياسين: «لمّا انتشرت هذه المجموعة (الكتاب مجموعة مقالات يسمّيها يوسف ياسين مجموع مقطّعات فكرية) في الحجاز انقسم الناس فيها فرقاً ثلاثة: فرقة قامت تحبّذ ما فيها وتعده من باب الجرأة الأدبية الممدوحة، وفرقة عدّت الكتاب طعناً مقصوداً بها وحاطّاً من كرامتها فغضبت واستشاطت وطرقت باب العدالة تطلب الإنصاف، وفريق اعتدل في القول فأخذ على الكاتب تطرفه في بعض النقد وتبذله في إطلاق بعض ألفاظ يمكن الاستغناء عنها».
الفرقة الثانية التي غضبت واستشاطت وطرقت باب العدالة تطلب الإنصاف حثّها نائب الملك في الحجاز وقتذاك، الأمير فيصل بن عبد العزيز –كما روى محمد حسن عواد– أن تكتب ردوداً على الكتاب في الجريدة الرسمية «أم القرى» لكنها -كما يتبين لنا من دراسة حسين بافقيه التي قدم بها الطبعة الأولى من الكتاب- لم تفعل. وقد يكون سبب ذلك أنها كانت تريد الاقتصاص المادي أو الجنائي من صاحب الكتاب لا الاقتصاص المعنوي أو الفكري منه، أو أنها اكتفت بردود يوسف ياسين على كتابه.
كتّاب العريضة –حسبما ذكر محمد حسن عواد في موضع من ذلك الحوار- كانوا «كبار المطوّفين وكبار مشايخ الجاوا وغيرهم ممن ذكرتُ آنفاً». والذين ذكرهم آنفاً أو في موضعٍ السابق في ذلك الحوار كانوا «ممن يدّعون أنهم متفقهون في الدين آنذاك، بجانب القدامى من الناس، ومن يدّعون حبهم للأدب، أو ممن يميلون إلى دراسة الأدب في تلك الفترة».
كنت في المقال الماضي قد طرحتُ سؤالاً واستفساراً حول تصنيفات محمد حسن عواد لخصومه هذه التي يغلب عليها حدة موقفه منهم، بحيث لا يسميهم بما هم عليه وبما هم يمثلونه. فمن يدّعون حب الأدب هم الأدباء التقليديون، أنصار القديم في الأدب والبلاغة العربية. ومن يدّعون التفقه في الدين آنذاك، أرجّح من خلال سياق كلامه أنه يعني بهم مشايخ الجاوا.
أما استفساري عن مشايخ الجاوا، فلقد استعنت بصديق عزيز من الرياض، كان قد درس في سبعينات القرن الماضي في الحرم المكي للإجابة عن هذا الاستفسار. فأخبرني بما يلي:
مشايخ الجاوا هم المتنقلون في الإقامة ما بين جاوه والحجاز، وهؤلاء يتوزعون ما بين جاويّ من أصل حضرمي وجاويّ الأصل. وبين هؤلاء من كان يدِّرس في الحرم المكي، وكانوا يمثلون ثقلاً مالياً وثقلاً عددياً في موسم الحج وثقلاً دعوياً للمذهب الشافعي في الحجاز. والحجاز أصلاً المذهب الغالب فيه هو المذهب الشافعي.
الثقل المالي تأتّي لهم لكونهم أثرياء، ولأن أعداد الحجاج الإندونيسيين غفيرة بسبب ما يتمتعون به من كفاية مالية تميزهم عن بقية الحجاج المسلمين. فقبل ظهور النفط في السعودية كان الحجاج الإندونيسيون لهم النصيب الأعلى في المورد المالي السنوي لسكان الحجاز. ولهذا السبب أنشأت الحكومة الهولندية في إندونيسيا أول بنك في السعودية عام 1926م (هذا العام هو العام الذي أصدر محمد حسن عواد فيه كتابه «خواطر مصرحة») لتوفير الخدمات لحجاج جاوه أو الحجاج الإندونيسيين.
إن المطوّف الذي هو موكل بخدمة الحجاج والمعتمرين الجاويين في مكة وتوفير الخدمات كافة لهم سيكون من كبار المطوّفين ومن ميسوريهم، والمطوّف الذي هو موكل بخدمة حجاج ومعتمرين من بلاد فقيرة سيكون من صغار المطوّفين ومن فقرائهم.
كما كان للجاويين عامة نفوذ اجتماعي بسبب مصاهراتهم الممتدة مع عائلات حجازية على اختلاف أعراقها.
هذا ما أفادني به صديقي العزيز إجابةً عن استفساري الذي توجهت به إليه عن مشايخ الجاوا وعن صلتهم بمهنة الطوافة.
وأتمنى لدارسنا وناقدنا حسين بافقيه أن يتيسر له العثور على نص العريضة المطوّلة التي رفعها الثائرون على محد حسن عواد، وعلى كتابه إلى مقام الملك عبد العزيز ليلحقه بكتاب عواد الذي حققه وقدم له بدراسة ممتازة في طبعته الأولى، لأن ذلك النص وثيقة أساسية من وثائق الكتاب، ووثيقة تاريخية عن الصراع ما بين العتيق والجديد في الحياة الأدبية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية في الحجاز في مطلع القرن الماضي. فلو تيسّر له ذلك وأخضع ذلك النص لقراءته النابهة سيتوصل إلى المزيد من سبر غور ذلك التاريخ وإحاطتنا علماً بمفاصله وتفصيلاته.
المشهور عند من لهم بعض العناية وعند من لهم كل العناية بتاريخ الأدب في السعودية من السعوديين، أن في طليعة الثائرين على محمد حسن عواد وعلى كتابه، المطوّفين، لأنه قد مسهم مساً غير كريم في نقده لهم.
ففي مقاله «أمة مهملة» الذي أبدى فيه ألمه، أنّ الحجاز ليست فيه تجارة متنوعة ومنظّمة وصناعة وزراعة، وأن المهنة الرائجة في مكة هي مهنة الطوافة، فقدم مقترحات لصنع أو إنشاء ما يأمل به، تحدث عن أن المطوّفين لا يستفيدون من مدخول مهنتهم المالي؛ فما يجمعه المطوّف في شهر -كما قال- ينفقه في غضون ستة أشهر من السنة القادمة.
ومن سبل الإنفاق التي رأى أن المطوّف يهدر فيها ما جمعه من مال –حسبما قال: «يذهب ثلثه في زيارة (ميمونة) و(الجعرانة) ضحية ما يقام هناك من حفلات تجمع لذيذ الأطعمة وجيّد المشروبات. وثلثه الثاني في ساحة الشهداء بين أجور الدواب (الحمير) التي تبلغ أجرة الواحدة منها في الليلة قطعة ذهبية. وثلثه الثالث ما بين ولدان للتمتع وخمور فاخرة للاصطباح والاغتباق وألبسة ما بين (لاس) و(يرشوان) و(سليمى) إلخ...»...
وفيما يبدو أن ميمونة والجعرانة مكانان يقعان في ظاهر مكة، وأن اللاس واليرشوان وسليمى كانت من أنواع اللبس الباذخ والأنيق.
في الطبعة الثانية من الكتاب، طبعة عام 1961م، حذف عواد عبارة ولدان للتمتع، وجعلها «مظاهر للمباهاة» وحذف عبارة «وخمور فاخرة» وجعلها «لوازم فاخرة» ولم يحذف منها عبارة «للاصطباح والاغتباق»!
العبارة الأولى حذفها كلياً لأن التهمة فيها كانت أشنع. والعبارة الثانية حذفها جزئياً لأن التهمة فيها أقل شناعة من الأولى. ولا نحتاج إلى أن نقول إن قارئ تلك الطبعة، سيعرف أن الاصطباح والاغتباق تعبير ينصرف في السياق الذي أورده فيه إلى شرب الخمر لا إلى شرب اللبن.
وهنا يجب التنبيه إلى أن الطوافة –تقنياً– مهنة تجارية، وأن أصحابها ليسوا –بالضرورة– رجال دين أو عباداً صالحين.
ومما لاحظته في ردود يوسف ياسين على كتاب محمد حسن عواد، أنه دافع عن علماء الدين في الحجاز بعض الشيء بطريقة منهجية متوازنة، ودافع عن أنصار القديم في الأدب والبلاغة العربية بقوة وحرارة، لأنه كان من المتعصبين للقديم فيهما، لكنه لم يتصدَّ للدفاع عن المطوّفين فيما قذفهم محمد حسن عواد به. ففي المقال الذي عرّض محمد حسن عواد فيهم بتينك التهمتين الشنيعتين أدار يوسف ياسين نقاشه لهذا المقال حول مفهوم القومية والأمة وتكوينها رداً على دعوى الحجاز للحجازيين في ثلاثة مقالات. والحق يقال إنه في نقاشه هذا غمر محمد حسن عواد بثقافته في الفكر السياسي الحديث. وللحديث بقية.