سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

الإنصاف الذي توقعه مبارك

نقلت المذيعة شيرين عبد الخالق نبأ رحيل حسني مبارك على شاشة التلفزيون المصري، فلم تصدق أنها هي مَنْ فعل ذلك، وكتبت على صفحتها على «فيسبوك» تقول: «لم أكن أتخيل أني مَنْ سيذيع خبر رحيل مبارك، له ما له وعليه ما عليه، إنا لله وإنا إليه راجعون، هو في دار الحق ونحن في دار الباطل!».
بدا ما كتبَتْه وكأنه إعادة تذكير مبكر للذين سيشتبكون بعضهم مع بعض بعد رحيل الرجل، بأنه له ما له وعليه ما عليه، والمعنى أنه بشر كسائر بني آدم، وأنه لم يكن شيطاناً ولا كان ملاكاً، وأن صفحته بالتالي سوف تمتلئ بما أصاب فيه من المواقف، وبما أخفق فيه من السياسات في المقابل، فهكذا يجري جرد الحساب الأخير للأفراد الذين يتقلدون مواقع المسؤولية العامة في حياة الشعوب!
وقد كانت هذه هي المشكلة التي واجهت الرجل خلال سنوات تسع انقضت، منذ أن تنحى عن السلطة في 11 فبراير (شباط) 2011، إلى أن كان على موعد مع الرحيل في الشهر ذاته، وقد جعلته المصادفات على موعد في هذا الشهر نفسه مع أشياء كثيرة وكبيرة. ففيه كان على موعد مع التخرج ضابطاً في الكلية الحربية، ثم فيه كان على موعد مع الترقي بعدها بسنوات إلى رتبة غيرت من حياته، وفيه ثارت عليه قوات الأمن المركزي عام 1986، وفيه دعا ثم شارك عام 1991 في حرب تحرير الكويت، وأخيراً كان فيه على موعد مع الرحيل!
كل هذه الوقفات التي يجمعها شهر واحد في أعوام متفرقة، هي من صنع المقادير في النهاية، وليست من صنع مبارك بالتأكيد، ولكن هذا لا يمنع أن يتطلع إليها الذين يعتقدون في أبراج الفلك ومنازل النجوم، بوصفها باباً من أبواب الحظ في حياته التي طالت حتى كادت تتم مائة سنة!
المشكلة معه على مدى السنوات التسع، منذ تنحى إلى أن قضى، كانت أن المصريين انقسموا حوله كما لم ينقسموا حول رجل سياسة آخر. ففريق رآه ملاكاً لا يخطئ، ولم يكن هذا صحيحاً بأي مقياس، وفريق آخر في المقابل راح يحاسبه على أنه شيطان لم يفعل شيئاً حسناً، ولم يكن هذا بدوره صحيحاً بأي معيار من معايير التقييم في حياة الإنسان!
وربما يتيح رحيله عن الدنيا مساحة من الهدوء حول ما فعل وما لم يفعل، مساحة يستطيع من فوقها المناصرون والخصوم على السواء، أن ينظروا إلى كتابه باعتباره كتاباً لرجل عاش يعمل عسكرياً ومدنياً ولا يتوقف عن العمل، وكان من الطبيعي أن يخطئ هنا مرة، وأن يصيب هناك مرات، وأن يكون الحساب على هذا الأساس هو الأمر العادل الذي يتخلص من الأهواء قدر الإمكان!
وحين نعتْه رئاسة الجمهورية في القاهرة، فإنها كانت ترى أصداء هذا الانقسام الشديد حول مسيرته وترصدها، وكانت تدرك أن الخوض من جانبها في موضوع الانقسام أو في مادته، ليس من الحكمة في شيء، فتصرفت بطريقة حكيمة واضحة، وصاغت عبارات النعي على نحو يشير إلى هذه الحكمة، ثم يُكشف عنها في سطور لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة!
وكذلك فعلت القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية، في سطور النعي الذي صدر عنها بعد الإعلان عن الرحيل بساعات!
في المرتين جرى الحديث عن مبارك، والإشارة إليه بوصفه قائداً وبطلاً من أبطال وقادة الجيش، لا لشيء؛ إلا لأنه كان قد أمضى قسطاً كبيراً من شبابه جندياً في الميدان، إلى أن صار قائداً للقوات الجوية وقت حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 التي أعادت العزة والكرامة للأمة، والتي استردت الأرض وصانت العرض.
وقد كان هذا هو أفضل ما يمكن أن يقال عنه، من جانب مؤسسة الرئاسة التي مكث فيها ثلاثة عقود كاملة يحكم البلد، وكذلك من جانب القيادة العامة للقوات المسلحة التي عاش واحداً من أبنائها المخلصين، حتى ولو كان قد غادرها في عام 1975، عندما استدعاه الرئيس أنور السادات وأبلغه أنه اختاره نائباً للرئيس. كان هذا هو أفضل ما يمكن أن يقال عنه وسط هذه الأجواء!
فليس سراً أنه كان واحداً من القادة الكبار الذين ساهموا في تحقيق النصر، وليس سراً أن الضربة الجوية التي قادها في الساعة الثانية إلا خمس دقائق من ظُهر السادس من أكتوبر، كانت هي التي وفرت الغطاء الجوي المطلوب للقوات على الأرض، وكانت هي التي حسمت المعركة مع العدو منذ اللحظة الأولى فوق الأرض!
ولم تكن الضربة الأولى في نصر أكتوبر هي كل إنجازه العسكري، ولكنها كانت الأشهر في سجل أعماله في ساحات المعارك، فمن قبلها كان في صباح الخامس من يونيو (حزيران) 1967، قد راح يحلِّق على رأس سرب من الطائرات إلى أسوان في أقصى جنوب البلاد، وقد نجح في النجاة بها من فخاخ العدو في ذلك اليوم، ومن بعد كان هو الذي قاد معركة الطيران الكبرى مع الطائرات الإسرائيلية، فوق مدينة المنصورة في وسط دلتا النيل شمال البلاد. كان ذلك في 14 أكتوبر 1973؛ حيث دارت معركة كبرى من معارك الطيران، معركة لا يزال يؤرَّخ لها في تاريخ المعارك من نوعها في العالم!
وحين خرج على الناس في السادس من أكتوبر الماضي، فإنه حكى في فيديو مصور تفاصيل معركة المنصورة. كان يومها يرتجل، ولكنه ظهر أمام مشاهديه وكأنه يقرأ في كتاب مفتوح، وكان يتحدث متدفقاً بذاكرة يقظة تحفظ دقائق ما يرويه، رغم أنه كان يخطو فيما فوق التسعين!
هذه صفحة في حياته العسكرية لن يختلف حولها اثنان، ولكن صفحة السياسة في مشواره الطويل كانت في المقابل محل خلاف واختلاف، وسوف تظل هكذا إلى زمن طويل قادم، وسوف يكون حاله فيها هو حال عبد الناصر ومن بعده حال السادات. وعندما هبت رياح ما يسمى «الربيع العربي»، كان اشتباكه معها على أرض بلده اشتباك رجل مسؤول، وكانت عقيدته الوطنية العسكرية هي التي أرشدته إلى خطوات الطريق!
وقبل رحيله بيومين جاءه نبأ براءة ابنيه علاء وجمال في قضية كانت منظورة أمام القضاء، فلما جاءه النبأ قال عبارة من سبع كلمات، قال: «الحمد لله، ربنا أنصفنا بعد سنين طويلة!».
قالها ثم غادر بعدها بساعات معدودة، فكان وكأنه عاش ينتظر هذه البراءة، ليستأذن في الذهاب، وقد كان الإنصاف الذي قصده هو إنصاف الابنين في الأساس، لا إنصافه هو، حتى وإن كان قد تحدث بصيغة الجمع التي تضمه مع الولدين. أما إنصافه شخصياً فلم يكن معروضاً على محكمة من محاكم القضاء التي وقف أمامها جمال وعلاء، ولكنه إنصاف من نوع آخر، إنصاف سوف تقضي فيه محكمة التاريخ، وسوف تضع الرجل في مكانه الصحيح. اللافت أنه لم يكن على عجلة من أمره في طلب هذا الإنصاف؛ لأنه ظل يعرف تماماً أن التاريخ قد يتأخر قليلاً، ولكنه أبداً لا يتخلف عن أداء مثل هذه المهمات في حياة الرجال!