أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

الانتخابات الإيرانية الأخيرة وأدنى النتائج سوءاً

يتطلب توصيف التجربة الأخيرة من التصويت في انتخابات جمهورية إيران الإسلامية قدراً كبيراً من التبسط والتساهل. فمع كافة المرشحين الموافق عليهم مسبقاً من جانب السلطات، مع عدم الإعلان عن أي فائز من دون الحصول على شعار المرشد الإيراني الأعلى، فإن الحديث عن الانتخابات الإيرانية يوازي «شد الحبل» المعجمي واستطالته حتى الانقطاع، وبرغم ذلك، فإن قواعد المراوغة اللغوية والأدبية المستعان بها تستلزم قدرها الطبيعي من الاهتمام، لأسباب عدة.
بادئ ذي بدء، اختارت أقل نسبة ممكنة من الناخبين الإيرانيين المؤهلين للتصويت الانطلاق إلى صناديق الاقتراع. وقررت السلطات الإيرانية بعد أيام من التردد الشديد الإعلان عن نسبة الإقبال على الانتخابات التي قيل إنها بلغت 42 في المائة، وهي أدنى نسب الإقبال المسجلة في تاريخ الجمهورية الإسلامية حتى اليوم. ولم تتجاوز نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع في العاصمة طهران وحدها 24 في المائة. وسجلت أربع محافظات أخرى، هي خوزستان، وجيلان، وقم، والبورز، أدنى نسب الإقبال هي أيضاً؛ إذ لم تتجاوز 30 في المائة إجمالاً.
وفي حين أن الانتخابات الرئيسية كانت لأجل انتخاب البرلمان الإسلامي الجديد، فلقد تزامنت مع انتخابات التجديد النصفي لمجلس الخبراء، الذي يشرف – من الوجهة النظرية فقط – على أعمال وأداء المرشد الإيراني الأعلى. وسجلت تلك الانتخابات نسباً أقل من المشاركة في التصويت، وبلغت النسبة مستوى 20 في المائة فقط في بعض الحالات. ولم يفلح أحد من آيات الله العظمى في جذب عدد معتبر من الأصوات، باستثناء آية الله محمد تقي مصباح يزدي، فقيه المذهب الشيعي البارز، الذي اجتذب نسبة تجاوز 30 في المائة من أصوات الناخبين في مدينة مشهد.
وإجمالاً للقول، تجاوب ثلثا الناخبين الإيرانيين المؤهلين للتصويت إلى دعوة مقاطعة الانتخابات الأخيرة، الصادرة عن مجموعة واسعة من القوى السياسية في الداخل الإيراني.
وبمزيد من الأهمية، ربما تعكس لنا دراسة لأنماط التصويت في الانتخابات الإيرانية أن المقاطعة كانت أعمق تأثيراً بين جموع الناخبين الأكثر فقراً، في حين شهدت الطبقة الوسطى الإيرانية الجديدة التي نشأت في أعقاب الثورة نسبة إقبال معتبرة. وبكلمات أخرى، يمكن للجمهورية الإسلامية أن تعتبر نفسها «منبوذة» على نحو واضح من قبل فئة «المستضعفين»، أو الجماهير الفقيرة التي لا تكف الزمرة الإيرانية الحاكمة عن الادعاء بأنها تمثلها وتعمل لأجلها.
كما يستحق تكوين المجلس الإسلامي الإيراني المقبل نظرة اهتمام واعتبار لجملة من الأسباب.
للمرة الأولى منذ أربعين عاماً، سوف يتخذ المجلس الجديد مظهر القاعدة الصلبة للنزعة الخمينية المتشددة، صارفاً النظر تماماً – أو ربما ضارباً بعرض الحائط – كوميديا «الصقور والحمائم» المستمرة في ابتذال منذ قرابة أربعة عقود، في استهداف واضح لخداع الطبقات الوسطى الإيرانية القديمة، ناهيكم عن العالم الخارجي المراقب عن كثب.
ولقد جرى – بكل عزم وإصرار – تهميش ما يسمى تيار المعتدلين والإصلاحيين الذين كانت رسالتهم الأولى تتمحور حول منح نظام الحكم الإيراني من النسخة الكورية الشمالية المستبدة مظهراً إسكندنافياً لامعاً وبراقاً. وفي واقع الأمر، يمكن لبعضهم اعتبار هذه الخطوة نهاية فعلية غير معلنة لإدارة الرئيس حسن روحاني، حتى برغم أنه من غير المرجح أن يتخذ الرجل الخطوة الكفيلة بحفظ ماء وجهه أمام شعبه، والتنحي عن سدة الحكم والرئاسة.
يحمل 221 عضواً من أعضاء المجلس الإسلامي الجديد – من أصل 290 عضواً – شعار المتشددين أو «الصقور»، في حين يزعم 20 عضواً آخر بأنهم من المعتدلين أو «الحمائم». مع حفنة من 15 عضواً من أعضاء المجلس الجديد تتشدق بالولاء للرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد الذي عاد مروجاً لصورته الذاتية، محاولاً اتخاذ موضعاً وسطاً ما بين المهاتما غاندي الهندي وجنكيز خان المغولي. وتبقى لدينا جوقة من 33 عضواً من المذبذبين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، من الأعضاء الذين يملكون قدراً من الدعم المحلي، ولكن مواقفهم ومبادئهم منفتحة على الدوام لاستقبال أعلى العطاءات. وأخيراً، لدينا 11 مقعداً مخصصاً للمرشحين الذين لم يفوزوا بالأغلبية، والذين تتقرر مصائرهم الانتخابية في الجولة التالية من التصويت.
ويعتبر المجلس الإسلامي الجديد هو أول انعكاس للتوازن القائم بين القوى الحقيقية ضمن المؤسسة الخمينية الحاكمة في البلاد. ويشكل «الحرس الثوري» الإيراني – العمود الفقري الداعم للنظام – الكتلة الأكبر، باحتلاله 123 مقعداً من مقاعد المجلس. أما رجال المذهب الشيعي الموالون للنظام الحاكم، وتربطهم صلات جد وثيقة بـ«الحرس الثوري» فسوف يحصلون على 43 مقعداً من مقاعد المجلس الجديد. وبالتالي، وحتى في ظل غياب الكتلة الموالية لمحمود أحمدي نجاد، يحظى «الحرس الثوري» وأذرعه المساندة بالأغلبية الكاسحة المطلوبة في المجلس. وحقيقة أن المجلس الجديد يعبر عن الطبيعة الحقيقية للنظام الإيراني بصورة غير مسبوقة، ينبغي اعتبارها تطوراً إيجابياً في الأحداث.
وعلى الصعيد المحلي، تفرض الانتخابات الأخيرة حداً لمزاعم علي خامنئي، بأن إخفاقات النظام الإيراني خلال العقود الأربعة الماضية مرجعها إلى التيارات المعتدلة الإصلاحية من «بُناة رفسنجاني» إلى «فتيان نيويورك لروحاني». وعلى صعيد السياسة الخارجية، من شأن المجلس الجديد القضاء على الأوهام التي كثيراً ما دندن حولها الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، بأن السبيل الوحيد لإعادة إيران إلى الحظيرة الدولية، يكمن في دعم التيار الإيراني المعتدل من خلال منح التنازلات إلى النظام الإيراني الحاكم.
كما يكشف المجلس الجديد عن الطبيعة الحقيقية للنظام الخميني، المتمثلة في أنه من أنظمة الحكم النموذجية في العالم الثالث، بالاستناد الكامل إلى الأجهزة الأمنية والعسكرية في دعم النظام، مع «لمعة» آيديولوجية طفيفة. تماماً كما هو الحال في نظام فيدل كاسترو في كوبا، ونظام روبرت موغابي في زيمبابوي، وقبل كل شيء، نظام الحكم المستبد في كوريا الشمالية، التي تعتبر النموذج المثالي لأنظمة الحكم الرائعة من وجهة نظر حكومة علي خامنئي.
ومن واقع ذلك، لا يتوقع أحد احترام الجمهورية الإسلامية لحقوق الإنسان، أو تشجيع المشاركة الداخلية الفاعلة في صناعة القرارات السياسية، أو رفع أولوية التنمية الاقتصادية على الهوس بالنقاء الآيديولوجي. ويتعين على الطبقة الوسطى الإيرانية الجديدة، بما في ذلك المؤيدون لها في الغرب، قبول ذلك، أو حتى التزلف لنظام حكم الخميني، مع العلم الواضح بالعجز التام عن المسير في سبيل الاعتدال أو الإصلاح.
أما في الخارج، فمن شأن القوى المعنية بالمسألة الإيرانية، سواء لخدمة إيران أو اعتراضاً عليها، أن تدرك تماماً ماهية الوحش الذي يتعاملون معه، من حيث تلمس الحلول المؤقتة حياله، أو محاولة العمل من أجل تغيير النظام الحاكم بأسره في طهران. وبمزيد من الأهمية، سوف يدركون أن الشخصيات الإيرانية البارزة التي يتفاوضون معها ليست مجرد ممثلين يقومون بأدوار باهتة في منصب الرئيس أو وزير الخارجية.
ولقد نجحت استراتيجية «الضغط الكبير» التي اعتمدها الرئيس الأميركي دونالد ترمب في تعامله مع إيران، والتي تهدف في ظاهر الأمر إلى إقناع طهران بالتعديل من سلوكياتها، في إجبار النظام الحاكم على إعادة ترتيب الصفوف، والتأهب لخوض معركة النهاية.
ومن المفارقات، برغم كل شيء، أن نجاح الاستراتيجية الأميركية قد أسفر عن إحياء إمكانية إبرام الصفقات مع النظام الإيراني. فمع إقصاء «فتيان نيويورك» خارج المشهد السياسي، لم يعد «الحرس الثوري» الإيراني والأذرع الموالية له يخشون الانقلاب المدعوم من الولايات المتحدة الذي يمكن أن يفضي إلى تهميش أدوارهم، أو العصف بهم تماماً خارج حظائر السلطة في إيران. هناك كثير من أنظمة الحكم الفاسدة في عالمنا المعاصر التي تتسامح، أو ربما تتعايش معها الولايات المتحدة، ما دام فسادهم ظل قيد السيطرة، أو حبيس الغرف المغلقة.
تمخضت انتخابات الجمعة الماضي في إيران عن أدنى النتائج سوءاً، في ظل الظروف الراهنة. ولقد خلع علي خامنئي وصف «الاستفتاء الجديد» على التجربة الأخيرة لصالح أو في معارضة النظام الخميني. وتعكس النتائج المسجلة أن السواد الأعظم من الشعب الإيراني إما أنه رافض تماماً للنظام الحالي، وإما لم يعد يؤيده بالهمة نفسها والنشاط ذاته.
كما عكست الانتخابات الإيرانية كذلك أن نحو ثلثي الشعب الإيراني، بما في ذلك شريحة الطبقة الوسطى الحضرية الجديدة، لا يزالون يؤيدون الأقلية الصغرى من النخبة الأمنية والعسكرية المحتكرة لأسباب المال والسلطة في البلاد. أما بالنسبة للمعارضة الإيرانية، فإن إماطة اللثام عن حقيقة النظام الحاكم هي من الآلاء العظيمة، إذ إن معرفة حقيقة الطرف الذي تقاتله تعد الخطوة الأولى على طريق صياغة استراتيجية التغيير الموثوقة.