الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

«القرية الكونية» والحرب على «كورونا»

يذكّرنا وباء «كورونا»، الذي أصبح يهدد الآن البشرية كلها، كما أكدت منظمة الصحة العالمية، بأننا نعيش على كوكب واحد. نتعرض للأمراض نفسها. ونواجه النتائج والمخاطر ذاتها، بما في ذلك احتمال الموت، في الحالات الحرجة. كما يقف في وجه من يصاب منا، القلق ذاته في انتظار اكتشاف اللقاح أو العلاج.
حالة ذعر على امتداد الكرة الأرضية. مطارات مغلقة في وجه المسافرين. أسهم منهارة. كساد استثنائي يتوقع أن يصيب الاقتصاد العالمي. بورصات تندب حظها أمام هجوم وباء لم يتهيأ له العالم ولم يكن ينتظره. فجأة وجد أهل الكرة الأرضية أن التقدم التكنولوجي الذي ينعمون به لم يعد ينفع أمام هذه الهجمة الشرسة التي انطلقت من سوق لبيع لحوم الحيوانات الحية والنافقة، ومن بينها لحوم طيور وأسماك، في مدينة ووهان الصينية.
لم يعد مهماً في مواجهة «كورونا» إلى أي بلد تنتمي ولا أي ديانة تعتنق، كما لا يهم حجم حسابك المصرفي. فأكثر الذين أُصيبوا حتى الآن بهذا الوباء يعيشون في بلدان ميسورة، مثل الصين وأوروبا والولايات المتحدة، وأحوالهم المادية والمعيشية هي أحوال الطبقة المتوسطة أو الأفضل حالاً. أوروبيون وصينيون. عرب وأميركيون. كوريون وإيرانيون. فيما شعوب أخرى تعيش في دول تعد أحوالها أكثر تعاسة وفقراً، سواء في آسيا أو في أفريقيا، لم تضع الوباء أو مواجهته في رأس أولوياتها. حتى إجراءات ونصائح منظمة الصحة العالمية لا تجد طريقها إلى التطبيق في بلدان كهذه، تخفي أعداد الإصابات وتتكتم على مدى انتشار الوباء، كما يعدّ بعضها عمل هذه المنظمة الدولية تدخلاً غير مقبول في شؤونها الداخلية وفي طريقة تعاطيها مع مواطنيها.
قد يكون السبب أن «كورونا» هو أبسط ما يمكن أن يصيب سكان هذه الدول، مقارنةً بظروف الحياة البائسة التي يعيشونها. وقد يكون أيضاً أن آخر هموم الحكومات التي ترعى الشؤون الصحية في هذه الدول هي هموم متابعة الأوبئة وانتشارها وإجراء إحصاءات لأعداد المصابين بهدف محاولة العثور على طرق لمعالجتهم والحد من انتشار الوباء.
ومع تحول «كورونا» إلى وباء عالمي، يحتاج إلى تماسك الجميع لمواجهته، فإنه في الوقت ذاته فرض على دول العالم إعادة رسم حدودها والتشدد في مراقبتها، في اتجاه نقيض للعولمة التي تقتضيها شروط العيش في «القرية الكونية». حتى داخل الاتحاد الأوروبي، حيث كان يفترض أن الحدود بين دوله أصبحت حدوداً مفتوحة وغير مراقَبة، عادت إجراءات المراقبة على الحدود، مثل تشدد فرنسا والنمسا على الحدود مع جارتهما إيطاليا في مراقبة القادمين من هذا البلد، الذي فاقت فيه أعداد المصابين أعدادهم في مجمل الدول الأوروبية الأخرى. والأمر ذاته بين أوروبا والولايات المتحدة، حيث اتخذ الرئيس دونالد ترمب قراراً بمنع دخول أكثر المواطنين الأوروبيين (استثنى منهم مواطني بريطانيا وآيرلندا) بهدف الحد من انتشار الوباء في بلاده، التي تجاوزت الإصابات فيها 1300 حالة.
ربما كانت حالة الذعر المنتشرة في العالم على صلة بالقيود التي أخذت تفرضها ضرورات الوقاية على حياتنا اليومية. من القيود على التنقل داخل بلداننا أو السفر إلى دول أخرى. أو فرض بقائنا في منازلنا بهدف عزلنا عن احتمالات الإصابة. أو تغيير نمط حياتنا الاجتماعية، لناحية السهر وارتياد المطاعم وأماكن الحفلات وما إلى ذلك. هذه الحالة، على هذه الدرجة من الاتساع، لا يحصل ما يشبهها إلا في الحروب الكونية. ورغم هذا الهلع، يصبح التعامل مع خطر «كورونا» أكثر واقعية عندما تجري مقارنته بأوبئة أخرى انتشرت في العالم وحجم الإصابات التي نتجت عنها. قبل مائة عام، في سنة 1918، أصاب وباء الإنفلونزا ما يقارب 500 مليون شخص حول العالم (نحو ثلث البشرية آنذاك) ومات بسببه ما يقارب 50 مليون شخص، أكثرهم في الدول النامية. أقرب من ذلك، في سنة 2009 موجة إنفلونزا أخرى أُطلق عليها (H1N1) قضت على نحو 600 ألف شخص. بالمقارنة، أصاب وباء «كورونا» حتى الآن 126 ألف شخص، وقضى على 4600 حول العالم، ومعظم الوفيات تسبب فيها ضعف في جهاز المناعة لدى المصاب له علاقة بتقدم العمر وبأعراض صحية أخرى سابقة للإصابة بـ«كورونا». ويصبح للمقارنة معنى أكبر عندما نتذكر أن انتشار الوباء هو أسهل اليوم مما كان عليه قبل مائة عام، نظراً إلى وسائل النقل الجوي المتاحة بين الدول، والتي كانت أصلاً سبب انتقال الوباء في مراحله الأولى من الصين إلى أوروبا وإيران، ثم إلى دول أخرى في المنطقة العربية وحول العالم.
في الحديث عن «كورونا» ملاحظة على هامش هذا الوباء لا بد من تسجيلها. لقد أثبتت الصين أنها القوة الدولية الأكثر قدرة على تهديد سكان هذا الكوكب واقتصاد وطريقة عيش المقيمين عليه. ليس فقط كقوة اقتصادية صاعدة بات حسابها ضرورياً في السياسات الدولية، بل كبلد قادر على «تصدير» وباء خطير يُقلق راحة الدول الغربية واقتصادها. مدينة ووهان، المعروفة بكونها مركزاً مالياً واقتصادياً مهماً في وسط الصين، تجري مقارنتها بمدينة شيكاغو الأميركية، سهّلت انتشار «كورونا» نتيجة كونها محطة مهمة لوسائل النقل والقطارات وشبكة الطرق التي تربطها بسائر المدن الصينية وبباقي أنحاء العالم. والمفارقة أنه في الوقت الذي يهرع مختلف الدول لمواجهة الوباء الذي ترتفع أعداد المصابين به يوماً بعد يوم، يهرع الرئيس الصيني إلى ووهان ليعلن منها بدء تراجع الانتشار في بلاده وقرب القضاء عليه. لقد فعلت الصين ما لا قدرة لدولة أخرى على فعله، بنشر «كورونا» أولاً، ثم بإجراءاتها الصارمة في مواجهته والتي لا تجرؤ أنظمة غربية كثيرة على اتخاذ ما يشبهها.