لم يحظ ماكس فون سيدو الذي توفي يوم الأحد الماضي عن 90 سنة، بالقدر الذي يستحقه بين روّاد وهواة السينما في العالم العربي، وفي بعض أنحاء العالم المحيط أيضاً. لكن من واكب أعماله في أفلام إنغمار برغمن، أو في أفلامه الأميركية وجد نفسه أمام ممثل ليس من السهل مقارنته بسواه.
كان سيستقبل عاماً جديداً من حياته في العاشر من أبريل (نيسان) لو عاش، لكنه إذ مضى فإن ما خلفه من أعمال (123 أداء في السينما و36 دوراً على شاشة التلفزيون) يبقى دلالة على موهبة جذبت إليه جمهوراً غربياً كبيراً تابعه من مرحلة إلى أخرى من دون كلل، وصولاً إلى السنوات القريبة الأخيرة، حيث شاهدناه في جولة من الأفلام الشائعة مثل «ستار وورز: القوّة تستيقظ»، و«فلاش غوردون»، و(المسلسل التلفزيوني) «لعبة العروش».
بعضنا يستغرب كيف يمكن لممثل بقيمة من أبدع تحت مظلة المخرج السويدي الكبير إنغمار برغمن أن يلجأ إلى أدوار في أفلام ليست من الركب ذاته، لكن فون سيدو كان نوعاً من التأكيد على أن الممثل هو بجودة ما يؤديه وليس مسؤولاً عن جودة العمل الذي يشترك فيه.
ملحمة
لم يولد هذا الممثل السويدي وفي فمه ملعقة الفن، لكنه انجذب إليه في سنوات المراهقة واعتلى منصة المسرح أولاً خلال وبعد دراسة التمثيل في مطلع الأربعينات.
بدأ التمثيل للسينما بفيلمين من إخراج ألف سيوبيرغ (أحد كبار مخرجي السينما السويدية في فترة ما قبل وما بعد الحرب العالمية الثانية)، هما «الأم فقط» (1949) و«مس جولي» (1951). وبعد ثلاثة أفلام أخرى وجد نفسه يقود بطولة فيلم «الختم السابع» الذي كان أول تعاون له مع إنغمار برغمن. الأول من بين أحد عشر فيلماً معاً جعلته وبرغمن كما لو كانا توأمين بملامح مختلفة. واحد وراء الكاميرا والآخر أمامها، وكل منهما يتمم الآخر.
في تجربته الأولى تلك تحت إدارة برغمن مثّل فون سيدو شخصية رجل يبحث عن إجابات وجودية وروحانية في زمن انتشر فيه وباء الطاعون. يلاعب ملك الموت (قام به بنت إكروت) الشطرنج لعله يربح جولته ضده. طريقة تجسيده الشخصية بمشاعر داكنة تلتقي مع تصوير الفيلم بالأبيض والأسود.
في العام ذاته ظهر في Wild Strawberries إلى جانب بيبي أندرسن وإنغريد ثولين، ممثلتان ظهرا معه لاحقاً أكثر من مرّة. له دور صغير هنا لأن الشخصية المحورية لسواه. لكن فون سيدو عاد لدور البطولة في لقائه الثالث مع برغمن سنة 1958 في فيلم «الساحر» (The Magician) ، حيث لعب شخصية ساحر مسرحي جوّال مع فرقته يدخل في أزمة مع السلطات (في القرن التاسع عشر) ويعرف كيف يخرج منها منتصراً.
في العام نفسه قدّم برغمن فيلماً آخر هو «حافة حياة» مع بيبي أندرسن وإيفا دولبك وإنغريد ثولين في البطولة (كون الفيلم يتحدث عنهن). سيدو هو زوج ثولين في هذا الفيلم.
أفلامه اللاحقة قرّبته أكثر فأكثر إلى هاجس الأدوار المتميّزة بحضوره. هذا بدأ فعلياً بفيلم عنوانه «ساعة الذئب» واستمر ممعناً في تجسيده الشخصيات الصعبة التي تعاني من هواجسها المتعددة في «عار» (Shame) و«شغف آنا» (The Passion of Anna) و«اللمسة» (The Touch) الذي كان، في سنة 1971. آخر عناقيد تلك المرحلة.
بين قارّتين
لكن لم يكن كل شيء في عالمه هو برغمني التوجه والبذل. صحيح أنه، ومنذ بدايته في التمثيل للسينما وحتى سنة 1965، رفض عروضاً أميركية وجهها إليه عدد من المخرجين الذين رغبوا في إسناد أدوار مخصصة له، إلا أن الرجل عاد فقرر التوقف عن الممانعة والانتقال بموهبته من تحت مظلة برغمن ذات المشاهد الممعنة بالحوار الداخلي، إلى تلك التي تتطلب نوعاً آخر من الجهد مساق ضمن خيارات سردية عديدة ومعالجات أكثر عدداً.
وجده المخرجون الذين رغبوا فيه بأفلامهم الممثل الذي يستطيع بنظرة واحدة وبكلمات قليلة منح الفيلم الذي يقوم بتمثيله قيمة إضافية، كما الوجه الذي يستطيع أن يعكس الخير والشر بمستوى جيد واحد. في عام 1965 وافق على التمثيل في فيلم أميركي لأول مرّة.
هذا الفيلم كان ملحمة دينية من إخراج جورج ستيڤنز بعنوان «أعظم قصة رُويت» (The Greatest Story Ever Told) ، حيث مثل شخصية المسيح.
الفيلم الأميركي الثاني له جاء بعد عام واحد كما لو أنه اكتشف رغبة دفينة في التنويع. «هاواي» لجورج روي هيل (الذي لديه أفلام أشهر من بينها The Sting وButch Cassidy and the Sundance Kidd) كان عملاً جيداً بحد ذاته ولو لم يلق النجاح الذي كان يستحقه ودور فون سيدو فيه من أبرز معالمه: هو مبشر يصل وزوجته إلى هاواي في قرن مبكر مضى لكي ينشر الديانة المسيحية هناك، لكن الأحداث التي تقع لهما توعز له أن المسألة لا تُبنى على النوايا وحدها.
بعد ذلك شوهد في «رسالة الكرملين» (1970) لجون هيوستون لاعباً دور كولونيل روسي، وبعد ثلاث سنوات وجد نفسه يعالج الأبدان التي «تلبّسها» الشيطان في فيلم ويليام فرديكن «طارد الأرواح» (The Exorcist) المنتمي بطلاقة إلى أفلام الرعب.
العديد من نقاد الغرب وجدوا أن فيلم فريدكن نجح بسبب خدع بصرية للفتاة التي تتحدث بصوت ليس صوتها وتستطيع أن تلف رأسها بـ360 درجة، وترتفع من دون حبال أفقياً إلى سقف الغرفة. لكن الواقع أن شخصية فون سيدو، كراهب لديه شكوكه حول ما يؤمن به، هي التي تمنح الفيلم عمقه الوحيد.
كان الدور صعباً على معظم الممثلين ومنحه فون سيدو حضوره السابق في أفلام تطلبت منه لقاءً مع المكوّنات الروحية كما في أفلامه السابقة مع برغمن مثل «الختم السابع» و«ساعة الذئب». لكن الرعب الذي وفره فون سيدو في «ساعة الذئب» يختلف عن ذاك الذي وفره في «طارد الأرواح» اختلاف ما هو جوّاني عميق عما هو حضور ظاهر. ليس أن فون سيدو افتقد موهبته في الفيلم الأميركي، لكنه مارس ما قد يمارسه ممثل جيد آخر من أداء، في حين أنه جسد الشخصيات التي أداها تحت إدارة برغمن على نحو أكثر عمقاً وصدقاً.
الفيلم الأميركي الذي كان أفضل من سواه بالنسبة لهذا الناقد هو «ثلاثة أيام من الكوندور» لسيدني بولاك (1975) لم يكن دوره كبيراً على الإطلاق في هذا الفيلم الذي قام روبرت ردفورد ببطولته، لكن ظهوره كان طاغياً في دور قاتل يمزج الرقّة بالعنف. في المشهد الأول من ظهوره ينظر إلى امرأة من أصول جنوب - شرق آسيوية، ويقول لها بصوت هادئ ونبرة صادقة «آسف»، ثم يطلق النار عليها.
رغم ذلك، فإن من يرد البحث عن فون سيدو فعليه أن يعيد اكتشاف أفلامه السويدية وليس الأميركية. عن دوره في «نور شتوي» كرجل قليل الثقافة تائه بين خيالاته وفي «ربيع العذراء» حول الأب الذي يبحث عن وسيلة انتقام وفي «عار» عن الرجل الذي وجد نفسه فجأة بلا تلك الأخلاقيات التي اعتقد أنها موجودة في داخله ولا أحد يستطيع تغييرها.
بالنسبة لممثل لم يرد أن يفعل أي شيء آخر له علاقة بالسينما سوى التمثيل، فإن ما قدّمه طوال نحو سبعين سنة، فإن فون سيدو أنجز نجاحات لم ينجزها ممثل أوروبي آخر بصرف النظر عن العدد الكبير من المواهب الأوروبية في مجال التمثيل. وخلال أكثر من مائة فيلم تحت إبطه، برهن على أنه من السهل عنده أن يكون ممثلاً ملائكياً هنا وشريراً هناك. يعاني من آلام البحث عن معنى الحياة في فيلم ويؤدي شخصية من يملك السُلطة القاضية في فيلم آخر، وكل ذلك بمستوى مبهر واحد.
انطلق فون سيدو من أفلام برغمن وخاض أفلام هوليوود، لكنه حافظ على خطوط التواصل مع السويد مفتوحة، ولنا أن نتابع ما تركه من أرث هنا أو هناك.