حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

«حزب الله»: انكسار الصورة

... وجاء زمن سقطت فيه كل تلك المقولات الانتصارية والرؤى في كل شيء المصنّفة فوق حقيقية، وسقط أيضاً كل ذلك التبجح والتشاوُف والتطاول على الناس وتصنيفهم بين وطني وعميل. زمن وُصف فيه يوم عار السابع من مايو (أيار) بأنه «اليوم المجيد»، وكذلك زمن التبجح عندما قيل بعد مأساة حرب يوليو (تموز) وويلاتها بأنها «انتصار إلهي»، وقبل ذلك وبعده أحاديث من نوع: «وعدتكم بالنصر»! إنها الصورة التي تم تصنيعها بحرفية هائلة، وجرى الترويج لها كحقيقة مطلقة، ومفادها أن ما يعلنه «حزب الله» هو الكلمة الأخيرة التي لا تقبل الجدل، فكيف إذا كان المتحدث هو الأمين العام الذي بلغت المبالغات بشأن أقواله حد الترويج لأن الإسرائيليين ينتظرون خطبه ليعرفوا الحقيقة العارية!
بعد 17 أكتوبر (تشرين الأول)، تغير الكثير من الأمور في لبنان، هبّ الهواء النقي الذي سرعان ما دلّ على مواقع الفساد ووضع المتهمين بالارتكابات تحت الضوء، ومعه لم يعد صعباً رؤية الكثير من وقع المتغير الكبير الذي حملته الثورة على مضمون العديد من القرارات السلطوية، وكذلك الأحاديث الرسمية والمواقف. باتت هناك قناعة أن «17 تشرين»، تنتج للبلد سياسة حقيقية، ومنحى مختلفاً عن كيفية وضع السياسة في خدمة الشأن العام، وليس في خدمة سياسة الزواريب التي يُعوّل عليها لخداع الرأي العام لمواصلة ابتزازه ونهبه، ما جعل الثورة بالمرصاد، لكل تحالف نظام المحاصصة الطائفي المسؤول عن استباحة السيادة الوطنية، وبالعمق كانت الثورة مدركة أن الوباء الأكبر الذي يضرب لبنان متجذر في الأكثرية الساحقة من طبقته السياسية وحكامه.
متغيرات من السهل تلمّس أثرها في سياسات «حزب الله» وخطب أمينه العام الذي أُرغِم على تصدر المشهد السياسي مرة دفاعاً عن الرئيس بعينه، لا عن الرئاسة التي لا تعني له الكثير بدليل فرضه إبقائها شاغرة عامين ونصف العام، ومرة أخرى دفاعاً عن حكومة شكّلها وأتى بالبروفيسور دياب إلى رئاستها، وهو ارتضى دور الواجهة لحزب يملك القرار الفعلي على الرئاسات والبرلمان، نتيجة قانون انتخابي استنسابي، وفّر له طبقة سياسية طيّعة... لكن كل ذلك صدّعته «ثورة تشرين» وأضعفت من تماسكه فلم يستمر في «الميدان إلاّ حديدان»، أي «حزب الله» المطالب بأن يأخذ المواجهة بصدره مباشرة.
لم يكن الانهيار الاقتصادي والمالي مفاجئاً للطبقة السياسية، فملامح الانهيار وما صاحبه من انتهاك لكرامات الناس هو ما أخرج اللبنانيين في «17 تشرين» إلى الساحات والشوارع، وبعد مضي أكثر من ثلاثة أشهر على اندلاع الثورة تم تشكيل الحكومة التي نالت ثقة ملتبسة من مجلس نيابي سحب منه الشارع الوكالة، لكنّ الحكومة المتجانسة والممثلة لفريق واحد، بدت غير معنية بما يضرب البلد، فتبنّت موازنة سابقة لاندلاع الثورة واستنسخت بياناً وزارياً من بيانات سابقة، ولم تبادر بتقديم أي رؤية أو تصوُّر أولاً بما خص الانهيار الاقتصادي والمالي وما يرافقهما من انهيار اجتماعي، وهو الأمر الذي نجم عنه انهيار نموذجٍ اقتصادي استمر 3 عقود عجزت الحكومة عن التعاطي مع تداعياته، وثانياً بالنسبة إلى أزمة انتشار فيروس «كورونا» الذي بات وباءً عالمياً مميتاً... حتى كانت إطلالة حسن نصر الله بعد غياب طويل نسبياً فمنح الحكومة الضوء الأخضر بالذهاب إلى صندوق النقد الدولي بعدما كان الأمر محرّماً من الحزب، وأيّد «ميني» طوارئ في مواجهة «كورونا»، بعد تأخير تجاوز الأسابيع الثلاثة، معلناً: الأمر لي... وما على جماعة المستشارين الهلعين المتحصنين خلف الجدران الخرسانية إلاّ التنفيذ!
في مواجهة الأحداث الجسام، لم تكن المصلحة اللبنانية في أي وقت أولوية «الحزب القائد» على ما كانت تدل الصورة المعممة عنه في بيئته الضيقة كما الأوسع، صورة منّنت المواطنين مثلاً أن الحرب على الشعب السوري ما كانت إلاّ لمنع مجرمي «داعش» من الوصول إلى جونية (...) ولم يكن لديه من اعتبار إلاّ ما يمكن أن ينسجم مع الأجندة الخارجية المكلف بها. فكسرت الأحداث المتلاحقة هذه الصورة.
طبعاً يدور الحديث عن الانهيار المالي وتداعياته، كما عن مواجهة الوباء المميت، وصولاً إلى فضيحة صفقة تحرير عامر فاخوري الملقب بـ«جزار معتقل الخيام»، وهو السجن الرهيب الذي أُقيم في الجنوب إبان الاحتلال الإسرائيلي وزُجّ فيه عدة ألوف من المواطنين لا سيما المقاومين. وباختصار شديد لأن طهران توجهت بطلب استدانة المليارات من صندوق النقد أصبح الأمر متاحاً، ولأن حجراً صحياً عاماً فرضته السلطات الإيرانية ومعه تعبئة عامة أمر بها خامنئي، أصبح ممكناً الأمر في لبنان، وقد اعتُمدت الصيغة إياها: «تعبئة عامة»، والحرص على توجيه رسالة إيجابية إلى أميركا: الشيطان الأكبر، كانت «قبة الباط» لإطلاق الفاخوري بقرار من المحكمة العسكرية برئاسة العميد حسين العبد الله، لاعتبار «سقوط الجرم بمرور الزمن العشري»، ويمتنع المدعي العام العسكري عن الاستئناف، ليتأكد أن الأمر مسرحية مقززة محلياً وثيقة الصلة بالاتصالات الهادفة لإنقاذ بعض حلفاء الحزب من عقوبات أميركية كانت ستطال سياسيين يتردد أن من بينهم وزير الخارجية السابق جبران باسيل! وإقليمياً ليست بعيدة عن رغبات حكام طهران!
رغم السلوك الفضائحي لحكومة المستشارين وانكشاف الصورة على حقيقتها ومن هي الجهة الممسكة بالقرار والتوقيت بشأن أي خطوة، يتكرر كلام «الأنا» من خارج السياق المقبول كالادعاء: «نسبق العالم بتدابيرنا ونسبق الفيروس بخطواتنا»... وصولاً إلى الذروة في الحديث عن «فعل الخير وإنقاذ الغير»، فمنذ متى كان من واجبات السلطة فعل الخير؟ وأليس أوجب واجباتها حماية حياة الناس؟ ومن هم الغير؟ وهل فات الخطيب أنه يتقاضى راتبه وكل مخصصاته من عَرَق المواطنين وجيوبهم؟
إنّ على السلطة الفعلية في البلد كما واجهتها الحكومية، وكلتاهما متهمة بالمآسي حتى إثبات العكس، أن تدرك أين أصبح البلد بعد «ثورة تشرين» التي حطّمت مفاهيم بالية وتابوهات، وكشفت على الملأ أن ما يعاني منه لبنان إنما هو ضمور في الأهلية والكفاءة لدى القيّمين على الشأن العام، وفائض في التبعية. لقد تم اختبار كل الاحتلالات، كما اختُبرت الغلبة الطائفية عبر الاستقواء بالخارج، كما وضع صورة قداسة للبعض، وما من أمرٍ استمر، واليوم رغم الصعوبات هناك جديد في لبنان، هي «ثورة تشرين» الممتدة على كل الجغرافيا، دخلت البيوت من أبوابها وصنعها أهل البلد الذين صبروا على فيروسات سلطوية تناسلت لعقود، يعوّل عليها لوضع حدٍّ لهذا الاستبداد المديد واستعادة الدولة المخطوفة بالفساد والسلاح والتبعية.