حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

حكومة الأقنعة في لبنان ليست الحل لمواجهة الانهيار والوباء

صباح الثلاثاء الماضي، أحرق سائق أجرة سيارته، احتجاجاً على قيام دورية أمنية بتسطير محضر ضبط ضده، لمخالفته القرار الذي يمنع وجود أكثر من راكب واحد في وسيلة النقل. سائق الأجرة الذي يعيش على اليومية هو من أكثر الناس تضرراً في هذه المرحلة، مثله مثل بضع مئات ألوفٍ من اللبنانيين باتوا على حدود خط الفقر أو تحته، وجاءت القرارات الحكومية بعد «التعبئة العامة» الداعية إلى «حظر تجولٍ ذاتي» لترميهم بالإهمال وعدم الاهتمام بتخصيص أي مساعدة، لأنها اقتصرت على منحى أمني عبّر عنه وزير الداخلية بأنه انتقال من «مرحلة المنع» إلى «مرحلة القمع»!
حكومة «حزب الله»، وهي عن جدارة الواجهة للممسكين بمفاصل القرار في لبنان، أعلنت عن صندوقٍ وطني مخصص لمكافحة فيروس «كورونا» وتداعياته، ولكنها لم تخصص له أي فلس، بل اكتفت بمناشدة المواطنين التبرع، ونظمت البعثات الخارجية حملة في المغتربات للحثِّ على التمويل، منطلقة من اعتبار أن البلد في حالة إفلاس، بدليل القرار الرسمي تعليق سداد سندات اليوروبوند. واقعياً سحبت الحكومة يدها بتعسف من المسؤولية عن اتخاذ الحد الأدنى من الخطوات التي تحمي حياة اللبنانيين، خصوصاً عشرات ألوف الأسر التي طالها الجوع سواء كانت من أهالي الأحياء الشعبية في المدن وضواحيها أو في الأرياف.
من الطبيعي أمام قسوة هذه الجائحة، أن الحجْر المنزلي هو ألف باء منع انتشار الوباء الذي ينتقل أساساً من خلال الاختلاط. لكن كيف يمكن الطلب من الجائعين، ولو تحت طائلة التهديد بالقمع، التزام منازلهم، والنوم على الطوى! والكل مدرك حجم الكارثة المعيشية، نتيجة نهبٍ أفقر البلد وجوّع أهله، ومن يقارن الإجراءات الجدية التي تم اتخاذها في بلدان تقودها سلطاتها منبثقةً من انتخابات شفافة، وطالت تأمين المخصصات الشهرية، ووقف أعباء الإيجار والهاتف والمياه وأقساط البنوك... بالترتيبات الهزيلة التي زعمت الحكومة - الواجهة اتخاذها، ترتسم أكثر فأكثر ملامح الكارثة الآتية، ذلك أن التجربة تؤكد أن أولى المهام الحكومية استنساخ القديم الذي يكرس الفساد، والمضي في المنحى السياسي المكرس نهج المحاصصة الطائفية وما يرتبط به من عقد صفقات وسمسرات، دونما إقامة أي اعتبار للحقائق التي سرّعت «ثورة تشرين» فضحه، عندما أكدت أن المسؤولية عن الانهيار سياسية، وأن الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي ما هو إلاّ النتيجة. والأمر المؤكد أنه في لبنان، خصوصاً بعد «ثورة تشرين» كما بعد انتشار الوباء المميت، بات كل أداء السلطة تحت مجهر المحاسبة الشعبية.
لنترك حديث الإفلاس جانباً فهو ذريعة غير جدية، لأنه من ضمن الميزانية المعمول بها يمكن تخصيص الموارد التي تحمي حياة الناس وتساعد في إنقاذ البلد. فوفق دراسة مفصلة للاقتصادي د. جاد شعبان، هناك نحو مليون مواطن فقدوا مداخيلهم بسبب البطالة أو الإقفال نتيجة تبعات فيروس «كورونا»، والمعايير لتحديد هذه الفئات والآليات الممكن اتّباعها معروفة لدى وزارتي العمل والشؤون الاجتماعية، وإجمالي التكلفة لمدة ثلاثة أشهر لإنقاذ هذه الفئات، والفوز في معركة المواجهة مع الوباء، تتطلب نحو 1200 مليار ليرة، أي أقل من 7% من الإنفاق الحكومي في ميزانية عام 2020 المعمول بها! ورغم ذلك يتم تجاهل هذه الأولوية، لأن الرهان قائم على التجويع للتطويع!
نفتح مزدوجين للإشارة إلى أن الحكومة التي حازت يوم 11 فبراير (شباط)، ثقة ملتبسة من برلمان سحب منه الشارع الوكالة الشعبية، وضعت أمامها مهمة السير في السياسات السابقة، مستغلة عن سابق تصور وتصميم تهديد الوباء المميت، وخروج المواطنين من الساحات وتعليق كل التحركات الشعبية، لتستأنف كل السياسات الجائرة... بهذا السياق، رغم أن اللبنانيين يعيشون زمن الانهيار والمجاعة، كانت باكورة القرارات تجميد سعر المحروقات رغم تدني سعر البرميل عن الـ25 دولاراً، ما مكّن السلطة من وضع اليد على أكثر من 7 آلاف ليرة إضافية في كل صفيحة... وذهبت إلى وضع مشروع قانون «كابيتال كونترول» تم تفصيله وفق مشيئة ومصالح الطغمة السياسية – المصرفية، والذي يقوم على الاقتطاع القسري لأجزاء من الودائع، ويجمّد المتبقي 6 سنوات، ويَمنع المودعين المتضررين من التوجه إلى القضاء لاستعادة جنى أعمارهم ممن يحتجز أموالهم، والثابت هو السعي إلى تحميل فقراء البلد قبل سواهم، المسؤولية عن سياسات مالية غطت النهب وأفقرت البلد وجوّعت الناس. وكان اللافت في كل هذا المنحى الحكومي المخالف للدستور وللمعاهدات الدولية الضامنة لحقوق المودعين، أن أبرز المتحمسين لتشريع الفساد بالقانون، هم أبرز أركان المافيا السياسية المهيمنة على السياسة اللبنانية منذ عقود، إن كان في ظل الاحتلال السوري أو لاحقاً تحت هيمنة «حزب الله» وكيل السيطرة المفروضة من نظام ملالي طهران!
عندما يتم تكبير الصورة، تتأكد القناعة أن هذا الزمن أبرز الحاجة إلى دور فاعل للدولة، خصوصاً بعد انكشاف كل السياسات التي أدت إلى انهيار مريع متعدد الأوجه، فلا يجد المواطن أمامه إلاّ حكومة تحالف فيروس الفساد المتسلط مع فيروس وباء «كورونا» المميت، والاستهداف يطال مصالح الأكثرية الساحقة من المواطنين، من خلال إجراءات يُراهن عليها لكسر الموجة التالية من «ثورة تشرين»، واستعادة مشهدية الانغلاق الطائفي، واستئناف استباحة القطاع العام ومنع تحريره من موبقات السياسات الزبائنية، خصوصاً بعد الصورة المدوية التي قدمها فريق مستشفى الحريري الحكومي الذي استحقّ عن جدارة أوسع الثناء من اللبنانيين الذين وجدوا فيه خط الدفاع الأول عن حياة المواطنين.
أكثر من أي وقت مضى، يتأكد أنه يستحيل مواجهة الانهيار وتداعياته والوباء المميت بحكومة أقنعة يتم تحريكها على الريموت كونترول والأجندات الخارجية الخاصة. ويدرك المواطن أنه مع المبادرات الكثيفة للتكافل الاجتماعي في أكثر من منطقة، وكذلك المبادرات الجدية لتصنيع لوازم المستشفيات، إنْ لحماية الفرق الطبية أو المصابين، لأن لا شيء يتقدم على أولوية إنقاذ الحياة، تتقدم مهمة إزاحة هذه الحكومة من خلال السعي إلى بلورة كتلة شعبية تفرض قيام حكومة استقلاليين مستقلين عن الأحزاب الطائفية وفسادها، كي يخطو لبنان نحو إنجاز الهدف المرتجى وهو إعادة تكوين السلطة.
واهمٌ من يظن أن المواطنين الذين وحّدوا البلد واستعادوا مواقعهم حول مصالحهم، وتيقّنوا أن التغيير الشامل المفضي لاستعادة الدولة المخطوفة هو الممر لتحقيق المطالب، يمكن أن يرضخوا لقهر الجوع والمرض... فالأمر المؤكد هو أنه بمجرد عبور البلد هذه المحطة السوداء سيكون لبنان أمام حتمية انفجار شعبي آتٍ لا محالة بوجه الطغاة والدُّمى!