محمد العرابي
TT

عصر وفاق «كورونا»

عندما نشرع للتحدث بشأن انتشار فيروس أو تسجيل حالة وباء عام يصيب العالم فإننا دائماً ما نذهب إلى تحليلات نمطية، أغلبها يحمل تساؤلاً حول من المتسبب؟... وحتى لا نصبح أسرى لنظرية المؤامرة فدعونا نناقش الأمر تحليلياً.
هذا النوع من التهديد يجعلنا نذهب إلى الاستعانة بمفهوم الأمن غير التقليدي؛ فالتهديد هنا يستهدف الأمن القومي للدول... ولا يعد تهديداً عسكرياً أو عبر الحرب المألوفة، يمكن القول إن هذا النوع مثل ملفي (الهجرة غير الشرعية، والإرهاب) اللذين عجزت الحدود السياسية عن صياغة حلول فعلية لهما، وأخيراً جاء «كورونا» ليضع فرضيات جديدة للأوضاع.
لكن ما يجب أن يسيطر على تساؤلاتنا في ظل تداخل تلك الأزمة عالمياً مع حزمة من الصراعات الإقليمية والدولية ذات الطابع (السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والتجاري)، هو محاولة فهم تداعيات انتشار «كوفيد - 19».
أولاً: التداعيات السريعة
إن خطر «كورونا المستجد» استدعى ضرورة التعاون بين الدول، كما أظهر في الوقت ذاته ضغائن جديدة بين الشعوب؛ ففي ظل حجم التوتر القائم على شبكات التواصل الاجتماعي وسرعة انتشار الخبر والمعلومة، ركزت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة عالمياً على الموقف، وتمحورت التغطيات حول ما يلي:
> لإجراءات الاحترازية التي تتبناها الحكومات.
>رد الفعل الشعبي تجاه التدابير والإجراءات.
> المساعي الدولية للحصول على العلاج.
وفي المقابل، فإن التغطية كشفت العديد من السلبيات التي تُنبئ بكوارث إنسانية - قد يطول أمدها لسنوات - البعض منها عنصري، والآخر انتقائي في التعامل مع مواطني الدول الموبوءة صاحبة أكبر معدل في الإصابات من دون النظر في قدرية الموقف وإنسانيته.
وعلى الصعيد الآخر، فإن بعض الدول ذهبت للتنسيق فيما بينها، لتخطي الأزمة. وبسبب كونها مشكلة ذات طابع عالمي فإن ذلك يجعل من الأمر ضرورة لاتباع السياسات الأكثر نجاحاً تجاه مواجهة الأزمة؛ فالمسألة أصبحت كارثية ولا تُفرّق بين مواطني دولة أو أخرى، ولا نستطيع أن نعلم مداه الحقيقي حتى وقتنا الحالي. ستكون مشكلة «كورونا» بداية لتقويم جديد لما قبل وما بعد، فقد يكون التقويم الجديد يحمل بعض الإنسانية والسمو فوق بعض المشاكل، وخصوصاً النزاعات الإقليمية المزمنة، بمعنى أن بعض الأهداف السياسية الضيقة قد يعاد النظر فيها لأن هناك خطراً أكبر يهدد حياة الجميع.
المشهد الإنساني الراهن يحتّم على الجميع أن يضعوا النعرات الآيديولوجية والمصالح الوقتية جانباً، ويهتموا بحياة الآخرين؛ فما الجدوى منها إن لم يستطع الإنسان أن يصمد أمام خطر فعلي يهدد بقاءه.
ثانياً: التداعيات الجذرية الفارقة
أغلب التدابير التي عُممت على شعوب العالم وبلدانه تنبئ بانهيار اقتصادي متوقع قد يضع الدول الغنية والفقيرة على حد سواء، وهنا قد يظهر نظام اقتصادي جديد مبني على الشراكة والتعاون والتعايش.
حجم المنافسة المتوقع للحصول على دواء يثبت فاعليته في التجارب السريرية قد يؤدي إلى انخفاض الإنفاق التسليحي في الفترة المقبلة، ويكرس المزيد للبحث العلمي والخدمات الطبية، وتأمين الغذاء للشعوب.
سينتج عن تلك الكارثة وجود تحديث للآليات المؤسسية الدولية لكي تصبح أكثر تداخلاً، وتُسهم في حماية حياة الإنسان أينما كان، كما أنها ستكون فرصة ذهبية لإعادة صياغة أجنداتها وترتيبها إقليمياً ودولياً.
كما أن بعض التدابير الاحترازية لدول قد تُحدث حالة ضغط سلبي على دول أخرى؛ إذ أن الإجراءات الصارمة لبعض الدول تنذر بوجود عقاب لمخالف التدابير، ويعد هذا أكثر صرامة عندما يتحول الأمر بشكل دولي، كما ستبرز أدوار لجان للتحقيق والبحث حول ما إذا كانت التدابير فعالة من عدمها أو قد تلحق ضرراً بحق الغير.
سيكون هناك جسر للتواصل بين الشعوب والحكومات قد يعطي وميضاً إيجابياً لتخطي بعض الأزمات فيما بينها، والوقوف جنباً إلى جنب لتوحيد الصف ومواجهة المشكلة.
هناك من قد يستغل انشغال العالم بالموضوع الوجودي ويشرع في تنفيذ مخططات على أرض الواقع، بحيث نصحو من كارثة «كورونا» ونجد تغييرات على الأرض، وقد تصلح «المبادرة الأميركية» كمثال لهذا التوقع.
مجمل القول إذن، إننا أمام صياغة جديدة لمفاهيم أكثر دقة تُعلي مبادئ حماية الحياة البشرية، فما عجزت عن إنفاذه المؤسسات الدولية، وما شاب عملها أحياناً من حالات التحيز أمام حالات التدخل الإنساني وإعلاء مصالح الأطراف... نحن أمام معضلة «السكون قمة الأمان»، وأن يكون كل ما هو ساكن فارقاً في الأزمة التي يواجهها العالم أجمع، فالجميع حتى وقتنا الحالي مستنفر لاستخدام أدواته التشريعية والدستورية والقانونية وسلطاته، مثل الحجْر والعزل وغيرهما، كما تعطي لنا الطبيعة حداً للتعديات عليها وتحظر ممارستنا اليومية على المستويات كافة حتى إشعار آخر.

* وزير خارجية مصر الأسبق