أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

القوة الحانية في الظروف القاهرة

خلال كتابتي لهذا المقال، صدر قرار ملكي من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بعلاج المصابين بفيروس «كورونا» مجاناً، للسعوديين والمقيمين، وحتى المخالفين لنظام الإقامة في السعودية. المنحة الكريمة قدمت علاجاً حتى للمخالفين للأنظمة الذين لا يحملون وثائق، رغم أنه حتى في القانون الدولي الدولة ليست ملزمة بعلاجهم.
إنسانياً، قرار نبيل وعادة كريمة. وصحياً، فيه تحجيم لتوسع التفشي لتطال الرعاية الصحية الجميع ما داموا موجودين على الأرض السعودية. هذا القرار تكلفته غير واضحة الآن، لكن بالتأكيد؛ إنها نفقات هائلة تنضم للتأثر الاقتصادي السلبي الذي شاب مجمل القطاعات.
السعودية مرت خلال عام واحد باختبارين قاسيين، لا تملك كل الدول النهوض بعدهما ببساطة، لكن القيادة السياسية اتخذت قراراتها ورتبت أولوياتها وقضي الأمر.
في منتصف سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، استفاق السعوديون على خبر مريع؛ هجوم صاروخي متعدد وطائرات مسيّرة على أكبر معمل لمعالجة النفط في السعودية، وأكبرها في تركيز النفط الخام على مستوى العالم، وهو منشأة بقيق، كما أصيبت منشأة في هجرة خريص. كان العمل الإرهابي بمثابة ضربة في قلب أسواق النفط، وهزة أصابت الاقتصاد العالمي، باختصار لأنه أثر على 5 في المائة من الناتج العالمي للطاقة، ونصف إنتاج السعودية من النفط الخام.
بعد تأكيد الخبر من السعودية، سارعت البلدان الموردة للنفط السعودي بالتواصل مع القيادة العليا في المملكة لفهم ما يجري وتداعياته وأثره على حجم الواردات، وكانت الإجابة لجميع عملاء السوق السعودية أن الإمدادت لن تتأثر، لأن الحكومة قررت السحب من المخزونات للوفاء بالالتزامات وتطمين السوق، ريثما تتم إعادة تشغيل المعامل. ارتفعت أسعار النفط نحو 10 دولارات، وانخفضت أسهم شركات الطاقة نحو 1.5 في المائة؛ تغيرات كانت لتصبح أسوأ بكثير لولا رد الفعل السعودي السريع. بعد عشرة أيام عاد العمل للمنشآت بنسبة 75 في المائة، وبعدها بعشرة أيام أخرى كانت المعامل تعمل بكامل طاقتها. هل كانت مرحلة صعبة؟ نعم، وعلى كل العالم وليس فقط على المملكة، لكن التحرك الصحيح والسريع حجّم من تأثير الهجوم، وخاب ظن من كان يقول إن السعودية قبل الضربة لن تكون كما بعدها، وإنها في ورطة حقيقية! من الناحية الاقتصادية، أسعفت السياسة النفطية السعودية العالم من ضربة موجعة، وسياسياً أثبتت أن إيران عدو بلا عقل، وأن جنونه قد يكون كارثياً للعالم كله.
ماذا لو تأخرت السعودية في بث الحياة في منشآتها؟ ماذا لو لم يكن لديها مخزون استراتيجي يكفي لضمان إمداد النفط للموردين؟ في النهاية من يحسم الأمر هو من يضع الخطة الاستراتيجية للعمل، ويدرس التوقعات، ويتنبأ بالاحتمالات الإيجابية والسلبية، ويرسم خطط للخروج من المآزق من الباب الخلفي.
في رأيي أن الاحترازات والعمل السريع بلا تردد سمات ثابتة في السياسة السعودية، كما حصل في حادثة بقيق وخريص، وكما نشهد اليوم على إدارة الحكومة لملف انتشار وباء «كورونا» الذي وصل إلى كل العالم تقريباً نظراً للتطور في وسائل النقل العالمية.
المملكة العربية السعودية ليست كأي دولة، لأنها تشرفت بخدمة الحرمين الشريفين، والوباء بدأ في الانتشار في موسم معروف بأنه الأكثر إقبالاً من الزوار من خارج المملكة وداخلها على الأماكن المقدسة. بحسب إحصاءات وزارة الحج والعمرة، فإن نحو 19 مليون زائر ومعتمر من الداخل والخارج يزورون الحرمين الشريفين خلال أشهر مواسم العمرة، وأعلى شهر للزوار هو شهر رجب، حيث يمثل نحو 16 في المائة من نسبة المعتمرين. في رجب هذا العام حل وباء «كورونا»، لم تتردد القيادة في اتخاذ خطوة حساسة للغاية بتعليق العمرة في الرابع من مارس (آذار) الموافق التاسع من رجب..
هذه الخطوة كانت تعليقاً للجرس بالنسبة لكثير من الدول بأن الوباء قادم، وأن الجدية ملزمة في التعامل معه، ولأن المملكة تحمل مسؤولية سلامة الزائرين من الخارج وهم تقريباً 7 ملايين هذا العام بحسب عدد التأشيرات الصادرة، وأيضاً سلامة الداخل سواء المعتمرين، أو من السكان والمقيمين في مساحة المملكة الشاسعة، فإنها لم تتردد، لم تخشَ من المرجفين ومن يترصد لها، كانت خطوة تمس سلامة العالم كله وليس فقط المملكة. ماذا لو تأخرت السعودية عن هذا القرار؟ كيف سيصبح مصير العالم في ظرف حساس، فيه اليوم والساعة والدقيقة تصنع فرقاً. كيف لو تأخرت مثل غيرها من الدول في اتخاذ الإجراءات الاحترازية ضد تفشي الوباء حرجاً من أجندات سياسية؟ ماذا لو لم تقل كلمتها أن «الإنسان أولاً». خطط الطوارئ المتضمنة لقرارات جريئة وسريعة، مهما بلغت تكلفتها المالية أو الاجتماعية أصبحت أساساً للاستقرار وفرصة كبيرة للنجاة.
التئام الدول العشرين الأقوى اقتصادياً في العالم في اجتماع افتراضي قبل أيام بدعوة من الرياض؛ رئيسة قمة العشرين، كان كشربة ماء بارد للمنظمات الدولية التي تقف شبه عاجزة أمام التحرك السريع للوباء. التنسيق بين المنظمات والدول بتعهداتها بالمساهمة في مساعدة بعضها ومساعدة الدول الفقيرة أزاح جزءاً كبيراً من الثقل عن هذه المنظمات.
السعودية ومن خلال معالجة هجوم المنشآت النفطية، ثم قراراتها الصحيحة في ملف فيروس «كورونا»، أثبتت خلال عام واحد أن القول إنها تحمل مسؤولية دولية، وثقلاً دولياً ليس مجرد تعبير إنشائي، بل حقيقة، كالشمس.