سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

اليد التي بدت قصيرة ومعها العين بصيرة!

حلّت الحرب العالمية الثانية على العالم، فأطاحت بعصبة الأمم وجعلتها شيئاً من الماضي، والظاهر أمامنا هذه الأيام أنه لا صوت يعلو على صوت معركة العالم مع فيروس «كورونا»، وأن هذه المعركة التي تبدو أشد وطأة على الدول كلها، يمكن أن تفعل في منظمة الأمم المتحدة ما فعلته الحرب الثانية في عصبة الأمم!
ذلك أن المنظمة الدولية الأم التي تشكلت مع نهاية الحرب الثانية، تعبيراً عن قوى دولية صعدت وترسخت أقدامها فوق الأرض، مع ختام حرب دامت نحو أربع سنوات قبل ما يقرب من ثمانية عقود من الزمان، إنما كانت قد نشأت للحفاظ على السلم والأمن الدوليين، أو هكذا عشنا نقرأ ونطالع في ميثاقها المنشور. ولكن الحاصل على مستواها في هذه المواجهة مع معركة الفيروس المستجد، أنها بدت عاجزة عن الحفاظ على السلم، وحائرة إزاء الحفاظ على الأمن، ثم بدت عينها بصيرة بقدر ما بدت يدها قصيرة!
وأخشى أن يكون جون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق للرئيس الأميركي دونالد ترمب، هو أسعد الناس في هذا الظرف العالمي، حين يتابع من مكانه عجز الأمم المتحدة عن عمل شيء يخفف من وقع «كورونا» على الخائفين منه في أنحاء هذا الكوكب التعيس!
كان بولتون قليل الاحترام للمنظمة طول الوقت، ولا تعرف كيف يكون هذا هو شعوره المعلن نحوها، ثم يقبل في أثناء إدارة جورج بوش الابن، أن يذهب إليها مندوباً لبلاده ورئيساً لوفدها في المقر الرئيسي في مدينة نيويورك... لا تعرف؟!
لم يكن يُخفي شعوره ولا كان يداريه، وقد جاء عليه وقت جاهر فيه بمشاعره بشكل لافت، فقال في تصريح شهير إن المنظمة الدولية لن يضيرها في شيء أن تُزيل عشرة طوابق من مبناها المتطاول إلى 38 طابقاً على نهر هدسون في المدينة!
ولا تعرف أيضاً ما إذا كان هذا الرأي من جانبه، تعبيراً عن أن المنظمة ترهلت أكثر من اللازم، وصار مبناها الشاهق من قبيل الحمولة الزائدة فوق الطاقة، أم أن رأيه كان نوعاً من الإشارة إلى تراجع دورها في حسم الصراعات بين الدول، ثم انحسار مدها الطبيعي أو الذي لا بد أن يكون طبيعياً وقوياً، في أركان مناطق الحرب بامتداد أرجاء الأرض؟!
لا تعرف ولا تدري على وجه الدقة في الحالتين، ولكن الذي سوف تعرفه وتراه وأنت تتابع ما يجري حولك، أن مارتن غريفيث، مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، لم يجد شيئاً يفعله مؤخراً أمام التصعيد العسكري على الأراضي اليمنية، واستهداف مدن في السعودية بصواريخ وطائرات مُسيّرة إيرانية، سوى إبداء انزعاجه مما حدث على يد الحوثي هناك!
لقد أدى الاستهداف إلى إصابة مواطنين اثنين بجروح طفيفة، فماذا سوف يفيدهما من الانزعاج الأممي؟! لا شيء طبعاً! وماذا سوف يقدم الانزعاج نفسه للمملكة، وقد جرى الاعتداء على أرضها، في الوقت الذي تسعى فيه هي إلى وقف الحرب في اليمن وإنقاذ ما تبقى من مقدرات البلد وثرواته؟! لا شيء كذلك سوف يقدمه انزعاج لا يقدم ولا يؤخر!
أهذا كل ما تملكه المنظمة الدولية الأم في بلاد اليمن السعيد، فيعلن مبعوثها أنه منزعج؟! إنني أنا نفسي في غاية الانزعاج مما حصل، ولست فقط منزعجاً، وكذلك أظن بالنسبة إلى قارئ هذه السطور، ولكن، لا بد أن يكون هناك فارق بين انزعاجي وانزعاجك الذي لا نستطيع ترجمته إلى فعل في مواجهة العدوان على سيادة الدول، وبين انزعاج منظمة دولية هي الأكبر في هذا العالم المعاصر، تستطيع بأدوات متاحة لها، وتصاريف يعطيها لها ميثاقها، أن تترجمه إلى الصورة التي تحب!
ولم يكن غريفيث فريداً من نوعه، وإنما شاءت أجواء «كورونا» أن يظهر فيها أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، بمثابة الأصل الذي يتفرع عنه مبعوثه إلى اليمن، فلم يكن الأصل أسعد حظاً من الفرع، وكلاهما كان يقول بأفصح لسان إن هذا ليس هو الدور الذي على منظمتهما أن تلعبه بجد، ولا هذه هي المساحة التي كان الأمل أن تتاح أمامها في أجواء فيروس لا يستثني مساحة من المساحات التي يطويها في سبيله، ولا تستوقفه حدود في طريق العبور فوق الدول والكيانات!
في ذروة الهجوم الذي كان الفيروس يواصله على عدة جبهات، كانت معارك القتال تتواصل على مستوى دول وجماعات حول العالم، وكان ضحايا الرصاص في معارك البشر مع البشر يتساقطون على أكثر من جبهة، ولم تكن الأطراف المنخرطة في هذه المعارك تريد أن تنتبه إلى أن عدواً لها معاً هو «كورونا»، يمضي في زحفه إلى كل مكان، وأنه سوف ينال منها كلها، بدون تفرقة ومن دون تمييز، ولن يعنيه في شيء أن يكون هذا الطرف منها معتدياً، أو أن يكون ذاك الطرف قد جرى الاعتداء عليه!
في ذروة هذا كله أصدر غوتيريش بياناً قال فيه ما يلي: ضعوا حداً لمرض الحرب، وحاربوا المرض الذي يعصف بعالمنا، ولن يكون ذلك إلا بوقف القتال في كل مكان، وقف القتال الآن، فهذا ما تبدو الأسرة البشرية في أشد الحاجة إليه، في هذه اللحظة أكثر من أي وقت مضى!
وكانت كلمات كهذه كفيلة بتنبيه مَنْ لا يريد أن ينتبه، إلى أن عدواً مشتركاً يفرض التوحد في مواجهته، لأنه يغافل الجميع بغير أن يبالي أو يكترث!
ولم تصادف كلمات الأمين العام للأمم المتحدة آذاناً تستقبل وتعي ما تستقبله، وبدت بعد صدورها عنه بساعة كأنها كانت صيحة في صمت القبور، ومضت ميليشيات حكومة الوفاق الوطني في غرب ليبيا تستهدف الجيش الوطني، إلى أن سقط قائد بارز فيه، رغم أن الجيش كان في وقت سابق قد أبدى استعداده لوقف العمليات، ورغم أن ظهور حالات إصابة بالفيروس في البلاد كان يفرض أن تكون الأولوية لإنقاذ المواطنين منه، بدلاً من استهداف القادة البارزين في الجيش!
ولم تكن الجبهات في سوريا أسعد حظاً، الأمر الذي دعا غير بيدرسن، المبعوث الأممي إلى هناك، إلى توجيه نداء إلى الجميع من أجل هدنة شاملة في مواجهة العدو المشترك!
فماذا يتبقى من الأمم المتحدة، إذا كان هذا هو حالها، وإذا كان أمينها العام ينادي من نيويورك فيرتدّ صوته إليه، وإذا كان مبعوثه إلى اليمن لا يستطيع الذهاب لأبعد من إبداء الانزعاج، وإذا كان مبعوثه إلى سوريا يصرخ بلا سميع أو مجيب؟!
الأمم المتحدة لم تنشأ لتكون مبنى شاهقاً في المدينة الأميركية، ولا لتكون مبنى آخر ممتداً على نحو أفقي في جنيف، ومن بعدهما مقرات متنوعة وموزعة على عواصم العالم ومدنه، ولكنها نشأت ليكون لها دور، والأهم من الدور أن تكون قادرة على ممارسة مقتضياته، وإذا لم تكن قادرة على ممارسته بما يحفظ تماسك العالم وسلامته وأمنه، فليست أمماً وليست متحدة!
عرّى الفيروس أشياء كثيرة في عالمنا، وكانت يد الأمم المتحدة في المقدمة من هذه الأشياء، فبدت عارية عن الفعل كما بدت العين عارية من النظر!