مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».
TT

إلف البلاء... وانتظار النور

رغم أن عدد الوفيات الناجمة عن جائحة «كورونا» عالمياً لم يصل المائة ألف حتى اليوم، ورغم أن فيروس «كورونا المستجد» كما يقول الخبراء خطورته ليست في كونه مرضاً قاتلاً لكل مصاب به، بل لسرعة تفشيّه ولكون المستهدفين به هم من المسنيّن أو من لديهم علل تضعف مناعتهم... رغم ذلك كله، فإن هذا الضيف الثقيل سبب كارثة عالمية؛ موجة من الاكتئاب السياسي والاقتصادي... والنفسي طبعاً على مستوى العالم.
في خضمّ التسابق العالمي للخروج من نفق «كورونا» الأسود، نجد ومضات مضيئة مبشّرة في هذا الليل البهيم.
من ذلك؛ هذا الخبر الذي انتشر عالمياً، وهو تعافي كورنيليا راس السيدة العجوز الهولندية (107 أعوام) من فيروس «كورونا» لتصبح أكبر ناجية في العالم من جائحة فيروس «كورونا المستجد» على الأرجح. وقالت ممرضتها لإحدى الصحف: «لم نتوقع أن تنجو من ذلك. إنها لا تتناول أي أدوية وتمشي جيداً وتركع على ركبتيها كل مساء لتشكر الرب. ستظل فيما يبدو قادرة على الاستمرار في القيام بذلك».
وحسب تفاصيل الخبر فإنه قبل كورنيليا راس، كان أكبر ناج من «كورونا» في العالم أميركياً يبلغ من العمر 104 أعوام.
هذه ومضة مفرحة تشير إلى أنه حتى الطاعنين في السن ليس ضرورة أن يكون رحيلهم عنّا حتمياً بسبب «كوفيد - 19» وهذا أمر حسن، لكن الأحسن هو تسارع الجهود لإقرار العلاج المتجادل عليه، علاج الملاريا، ليكون نافعاً تجاه هذه الجائحة.
المهم هو أن الدمار الهائل الذي تسبب فيه العزل العالمي، وتوقف الحياة وعجلة الاقتصاد بكل الأرض، لهما عواقب مخيفة، لذلك نجد هذا التنادي الدولي لسرعة إيجاد المخرج، الذي يضمن مجابهة «كورونا» وعدم انهيار المستشفيات في العالم بسبب تقاطر الجموع عليها، وفي الوقت نفسه يجعل دورة الحياة قائمة، ولو بحدّها الأدنى. لم يوجد المخرج بعد، لكنه حتماً سيوجد قريباً.
في كل الأحوال، قدرة البشر على التكيّف من «البلاء» لا حدود لها، تذكرت في هذا الصدد ما ذكره المؤرخ والطبيب والفيلسوف المسلم، عبد اللطيف البغدادي المعروف بابن اللبّاد، المتوفى سنة 629 هجرية، عن المجاعات والأوبئة الرهيبة التي أصابت مصر، وكان مقيماً بها، طبيباً ومعلماً، آتياً من بغداد، وسجل شهادات عينية مذهلة عن البلاء الذي أصاب الناس بسبب فيضان النيل ثم المجاعة التي جعلت أكل الحيوانات النافقة، بل وأكل بعض الأطفال البشريين! نعم، الأطفال، سلوكاً متكرراً بسبب انعدام الطعام.
يقول البغدادي في كتابه الشهير (الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر)، عن حوادث سنة 598 هجرية: «ودخلت هذه السنة والأحوال التي شرحناها في السنة الخالية على ذلك النظام أو في تزايد... وقلَّ خطف الأطعمة من الأسواق وذلك لفناء الصعاليك وقلَّتهم مِن المدينة، وألِفَ الناس البلاء واستمروا على البلاء حتى عاد ذلك كأنه مزاج طبيعي».
نحن اليوم في عالم غير عالم البغدادي في تلك الأزمنة، لكن رغم ذلك فإن إِلف البلاء بأي درجة منه، هو السلاح البشري العميق القديم الجديد. ومع ذلك فنحن محكومون بالأمل.