علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

ثورة طفولية

يواصل يوسف ياسين مناقشته لتلك الفقرة من مقال محمد حسن عواد، «البلاغة العربية»، التي أوردناها في المقال السابق، فيقول: «وبينا الكاتب ينادي الناس للأسلوب القرآني، تجده في آخر مقاله يدعو الناس ليتأدّبوا ويهذّبوا ملكتهم العربية بقراءة قصائد عمر عرب، ومقالات سعيد العمودي وجميل حسن. وقد قال بعد ذلك متهكماً: قد لا يمكن هذا ولا يصح ولا يستجيب بل يكره (تنزيهاً وتحريماً) عند سادتنا الكبار. الكبار. الكبار. ولكن لدينا جواب سديد نكمم به أفواههم إن جاءوا ينطقون، نخرسهم بالكلمة التي علمها الله للنبي صلى الله عليه وسلم، أن يخرس بها أفواه مكابري قريش: لكم دينكم ولي دين».
يوسف ياسين في بقية نقاشه لهذا الكلام، لضعف اطلاعه على أدب جبران لم يعرف أن الجواب الذي اعتبره عواد جواباً سديداً ومكمماً ومخرساً مستمد من قول جبران: «لكم لغتكم ولي لغتي»، في مقاله الذي يحمل هذا العنوان، والذي صاغه على نسق سورة «الكافرون»؛ فهو، عوضاً عن أن يأتي بهذا القول، أتى بالآية الأخيرة من السورة القرآنية التي صاغ جبران مقاله على نسقها.
إن عنوان كتاب عواد «خواطر مصرحة» هو استجابة لما دعا جبران إليه في ذلك المقال. يقول عواد عن عنوان كتابه: «سأكون صريحاً في خواطري هذه، قد سميتها (خواطر مصرحة). وعن إذنكم فقد لا تعجبكم هذه التسمية. وقد تغضب السيد سيبويه، لأنه لا يسمح في مذهبه إلا أن يُقال: خواطر مصرّح بها أو خواطر مصرح بما فيها، ولكن لا بأس... ليغضب السيد سيبويه وليرض الذوق العربي الفصيح».
تصريحه هذا يحيلنا إلى قول جبران في ذلك المقال: «لكم منها ما قاله سيبويه والأسود وابن عقيل، ومن جاء قبلهم وبعدهم من المضجرين المملين. ولي منها ما تقوله الأم لطفلها، والمحب لرفيقته، والمتعبِّد لسكينة ليله».
في مقال عواد الآخر، «البلاغة العربية»، حدثنا أنه بحث عن سر البلاغة العربية وكنهها، وأنه تلمسها في كل مكان وبين كل سفر وفي شقي كل قلم بغية أن يعثر بها. ثم أصدر أحكاماً حولها في أقوال صاغها بعبارات قصيرة.
ومما رد عليه يوسف ياسين من هذه الأقوال، قوله: «تلمستها في كتب السعد والجرجاني، فرأيتها تحشرج على فراش الموت».
يرد يوسف ياسين على هذا القول، قائلاً: «أما السعد فللكاتب رأيه فيه، وأما كتب الجرجاني فما بالها؟ وهل وراء كتابة الجرجاني في البلاغة زيادة المستزيد؟ ثم أليس من الجرائم العظيمة، بل من الجنايات الكبيرة أن يعمد حسن عواد أو أضرابه لرجل مثل الجرجاني فيقول له: إن البلاغة في كتابتك تحشرج على فراش الموت؟ هل هناك جريمة قذف أكبر من هذه الطعنة النجلاء ولا يغضب له أحد من أبناء العروبة؟ حقاً إننا لجائرون».
في تحقيقه للطبعة الأولى من كتاب عواد «خواطر مصرّحة»، يعلق حسين بافقيه مصححاً، فيقول: «الجرجاني المقصود هنا، هو الشريف علي بن محمد الجرجاني (740 – 816هـ)، له حاشية على المطوّل للسعد التفتازاني، وليس عبد القاهر الجرجاني، كما توهم يوسف ياسين».
أما قول عواد: «وجدتها رعداً يقصف من نبرات القرآن فوقفت خاشعاً أمام معبدها»، وقوله: «وجدتها ألقاً يلمع في مقالات بعض كتاب سوريا، فهززت يدي وصافحتها». وقوله: «وجدتها ورداً ذابلاً في مقالات بعض كتاب مصر فهتفت لها مبتسماً». وقوله: «وجدتها في شعر المتنبي ينبوعاً يحاول الانفجار فلا يستطيع». فقد رد يوسف ياسين على هذه الأقوال في قوله هذا: «آمنا وصدقنا وسمعنا وأطعنا؛ فهناك النهاية، وذلك الحد الأعلى، وليس وراء بلاغة القرآن مطلب لطالب، فمن كان عنده قوة بيان، فليصف ويعظم بلاغة القرآن... ولكن بينا الكاتب في هذا المستوى العالي ما رأيناه إلا وقد انحط من شاهق إلى الحضيض؛ من أعلى قمة في جبال همالايا إلى مستوى أرضي تحت البحر بآلاف الأمتار، قال (وهو يبحث عن البلاغة بعد أن وجدها رعداً يقصف من نبرات القرآن): وجدتها ألقاً في مقالات بعض كتاب سوريا فهززتُ يدي وصافحتها. عياذاً بالله من السقوط العميق، أمن القرآن إلى بعض كتاب سوريا؟ بلاغة الجرجاني على فراش الموت؟ والمعلقات منجم جنادل وصخور، وجميع الكتاب الأقدمين لم يرَ البلاغة في أقوالهم، بل وجدها في القرآن وفي كتابة بعض كتاب السوريين، وأظنه يعني بذلك البعض أمثال جبران خليل جبران وسلامة موسى (!) سبحانك هذا البلاء العظيم، ولقد كان في نظر الكاتب أن ذلك البعض من الكتاب السوريين فوق كتاب مصر وفوق المتنبي».
الأقوال التي ساقها عواد في بحثه عن البلاغة العربية تنقسم إلى أقوال تلمسها في كتب وشعر وجرائد فلم يجدها، وإلى أقوال وجد البلاغة العربية فيها. والأقوال التي وجد البلاغة العربية فيها تنقسم إلى قول تجلّت له البلاغة العربية رعداً فيه، كما في قوله عن القرآن، وألقاً كما في قوله عن بعض كتاب سوريا (ويقصد بهم بعض أدباء المهجر)، وإلى قول لم يكن الذين وجدها عندهم كذلك. وهم: بعض كتاب مصر (ويقصد هنا أنصار الأدب الجديد لا أنصار القديم منهم)، والمتنبي، والمنفلوطي، وأمين الريحاني.
وثمة قول أصحابه هم في بلاغتهم في منزلة بين المنزلتين، بين بلاغة القرآن وبلاغة بعض أدباء المهجر وبين بلاغة الأخيرين، وهو قوله: «وجدتها في كثير من شعر وكتابة مسيحيي لبنان تسلس عن قيادها». فهؤلاء لم يجعل بلاغتهم في مصاف بلاغة القرآن وفي مصاف بلاغة بعض أدباء المهجر، ولم يحكم على بلاغتهم (كما حكم على بلاغة الأخيرين) بأنها بلاغة ناقصة.
هذه الأقوال التي أوردنا بعضها ختمها بقول هو عنده مسك الختام في بحثه عن البلاغة العربية، وهو قوله: «ثم وجدتها في مترجمات فولتير وموليير، وشكسبير، ونايرون، وجوته، فقلت واهاً لمجد شعراء العرب»!
فالبلاغة العربية في هذا القول وجدها أخيراً في الأسلوب العربي المتأثر بأساليب بعض اللغات الأوروبية، وتحديداً اللغة الفرنسية واللغة الإنجليزية، فتحسَّر على مجد شعراء العرب قاطبة على مر العصور!
في مقدمة مقاله، «تحليل ولي الدين يكن»، قدّم عواد قائمة حصرية لمن يمحضهم الإعجاب ويخصهم به، ويعتبرهم الأنموذج في الفكر وفي الشعر. وهذه القائمة الحصرية تضيء لنا بعض أقواله التي مرّت بنا.
يقول في هذه المقدمة: «إعجابي بالكتبة العصريين، أو الكرام الكاتبين، يكاد يكون منحصراً في أمثال ولي الدين يكن، والمنفلوطي، وأمين الريحاني، والعقاد، والآنسة مي، وسلامة موسى، وهيكل، والمازني من الكتبة الأحرار، وهؤلاء من أعضاء الرابطة القلمية: جبران، نعيمة، عريضة، أبو ماضي... إلخ، كما أن إعجابي بالشعر الكلاسيكي العصري، أعني النوع المعروف بالشعر الهندسي منحصر تقريباً في شعر الأول من هؤلاء، وشعر بشارة الخوري، وفؤاد الخطيب وآخرين لا أتذكرهم الآن، هؤلاء هم الشعراء الأحرار».
فحينما أشرت موضحاً إلى أن قوله إنه وجد البلاغة العربية وردة ذابلة في بعض مقالات كتاب مصر، بأنه يقصد به كتابها المجددين لا التقليديين، كان هذا التوضيح مستمداً من هذه المقدمة، ومستمداً من روح مقاله الذي ساق فيه هذا القول، ومستمداً من روح مقالات أخرى. فهو يستعلي على الأدب العرب القديم، وعلى أدب الذين من معاصريه يحتذونه، ويحط من شأن بلاغتهم اتباعاً لآراء سلامة موسى في هذا الصنف من الأدب وأسلوبه وبلاغته.
خصَّ في أقواله كتاب المنفلوطي، «النظرات» بقول. فهو في بحثه عن البلاغة العربية، قال: «وجدتها في نظرات المنفلوطي عروساً تُزف لكن بلا طبول». ويبدو اسم المنفلوطي في قائمة إعجابه الحصرية اسماً نشازاً. فالأدباء المجددون المعاصرون للمنفلوطي كانوا لا يرمقون أدبه ولغته بعين الإعجاب لأكثر من سبب. والأهم من ذلك أن أستاذه سلامة موسى يعد أدب المنفلوطي أدب صنعة وفقاقيع، وأن أسلوبه نقيض للأسلوب التلغرافي الذي دعا إليه أستاذه سلامة موسى. ففي أسلوبه مجاز واستعارة ومترادفات.
ونستخلص من قولين له أن بلاغة بعض أدباء المهجر متفوقة بكثير على بلاغة كتّاب مصر المجددين. وهذا رأي كان يشاركه فيه بعض ناشئة الأدب من أهل التجديد في بلدان المشرق العربي في عشرينات القرن الماضي، الذين كانوا يرون أنه متفوق على الأدب المصري في البلاغة وغير البلاغة.
لا يجد محمد حسن عواد بأساً في أن يتناقض رأيه في مقال مع رأي له في مقال آخر بينهما صفحات معدودة. ففي مقدمة مقاله عن ولي الدين يكن سمّى شعر جبران شعراً كلاسيكياً عصرياً، وشرح هذا المسمى بأنه يعني الشعر الهندسي، مع أنه في مقاله الذي عرّف فيه بكتاب مي زيادة، «بين الجزر والمد»، قال: «ترى الكتابة أن الشعر العربي يمكن تقسيمه من حيث الأسلوب كشقيقه الإفرنجي إلى أنواع ثلاثة كبرى: الشعر الهندسي، وهو الذي يطلب من وراء الأوزان والمقاييس والعروض. وتعني الشعر الكلاسيكي».
في مقال مي زيادة، «لبيك يا مسيو فانبير!»، قسّمت الشعر العربي المعاصر على منوال تقسيم الناقد الفرنسي فرديان برونتير للآداب الفرنسية إلى ثلاث مدارس، واستعملت تسمياته لها. هذه المدارس هي: المدرسة «المدرسية» ذات الأسلوب والنظم الهندسي، والمدرسة الرومانتيكية... والمدرسة الرمزية.
وصنفت أعضاء «الرابطة القلمية»، وفي مقدمتهم جبران في شعرهم وفي بعض نثرهم بأنهم ينتمون إلى المدرسة الأخيرة. (راجع ص101).
إن شعر جبران لا يمكن تصنيفه بأنه شعر كلاسيكي حتى لو قيدنا اصطلاح الكلاسيكية باصطلاح العصرية. فكيف يكون شعره كلاسيكياً، وشعره وقتها كان جداً جديداً في الأدب العربي. الوحيد الذي سبقه إلى الشعر المنشور رفيقه أمين الريحاني، لكنه كان أكثر تحرراً منه في مسألة التقفية ومسألة الوزن.
ولعل هذا ما يفسر قول محمد حسن عواد عن كتاب أمين الريحاني، «الريحانيات»: «وجدتها في الريحانيات موجه تصعد وتهبط».
إن محمد حسن عواد مع إعجابه بمي زيادة وتأثره بها واستفادته من ثقافتها، فوّت على نفسه (يا للأسف) الاستفادة من رصانتها وعمقها وموضوعيتها، ومن نضج عقليتها وشخصيتها الأدبية والنقدية، وفوّت على نفسه التحلي برويتها وحكمتها وتواضعها في إصدار الأحكام.
وأحسب أني لستُ بحاجة إلى مناقشة أحكامه في بحثه عن البلاغة العربية، فهي ظاهرة العوار. لا تصدر إلا عن ثائر في الأدب، ثورة انفعالية طفولية. وللحديث بقية.