روسيا تكثّف تحركاتها العسكرية في إدلب لدعم الاتفاقات مع تركيا

بدأت موسكو تحركاً نشطاً على مسارين دبلوماسي وعسكري، بعد مرور أيام قليلة على اجتماع لوزراء خارجية بلدان «مسار آستانة» هدف إلى تقليص مساحات الخلاف، والتوافق على آليات التحرك في المرحلة المقبلة.
وتزامن ذلك، مع تواصل السجالات حول طبيعة وأهداف الحملة الإعلامية الروسية القوية على الرئيس السوري بشار الأسد، والتي رغم تراجع حدتها أخيراً ما زالت تداعياتها متواصلة لجهة إثارة أسئلة حول مستقبل العلاقة الروسية مع النظام.
وبرز التحرك الدبلوماسي في الاتصالات التي أجراها نائب وزير الخارجية الروسي المكلف بالملف السوري سيرغي فيرشينين مع المبعوث الدولي إلى سوريا غير بيدرسن. وأعلنت الخارجية الروسية أن الطرفين بحثا آفاق التسوية السياسية والوضع على الأرض وملف المساعدات الإنسانية. وجاءت المحادثات عشية جلسة دورية لمجلس الأمن حول سوريا. لكن الجانب المهم في المحادثات ظهر مع تأكيد دبلوماسيين روس رغبة موسكو في إطلاق سريع لعمل اللجنة الدستورية فور توفر الظروف الملائمة لذلك، في إشارة إلى أن موسكو تريد أن تبني سريعاً على الاتفاق الذي تم التوصل إليه الشهر الماضي حول آليات عمل اللجنة، وتخشى من أن المماطلة بسبب تداعيات تفشي فيروس «كورونا» قد تسبب أضراراً لما تم تحقيقه حتى الآن على هذا الصعيد.
لذلك، لم تستبعد مصادر تحدثت إليها «الشرق الأوسط» أن يتم إطلاق فكرة خلال الفترة المقبلة لتدشين عمل اللجنة «افتراضياً» لحين التمكن من عقد اجتماعات مباشرة لأعضائها.
ميدانياً، حمل التحرك الروسي رسائل عدة إلى الحكومة السورية وإلى تركيا في الوقت ذاته، إذ نقلت وسائل إعلام حكومية عن ضباط في سلاح الجو الروسي في سوريا أن موسكو بدأت تسيير مروحيات عسكرية في المناطق التي تشن فيها تركيا عمليات في إدلب لإجبار أطراف متشددة على فتح الطريق «إم 4».
وتعكس المواكبة الروسية للعمليات التركية ليس فقط أهدافاً ميدانية كون هذا التحرك متفقاً عليه بين موسكو وأنقرة، بل تحمل أيضاً إبعاداً سياسية على خلفية مواصلة دمشق حملات إعلامية وسياسية على تركيا. وقال دبلوماسيون روس إن موسكو تريد أن تؤكد التزامها بالاتفاق مع تركيا وارتياحها لأن أنقرة تقوم بخطوات عملية في طريق تنفيذ الاتفاقات. بالتوازي مع ذلك، بدا أن تداعيات الحملة الإعلامية القوية على الأسد في روسيا، لم تنتهِ، رغم تراجع لهجة المؤسسات الإعلامية التي شاركت فيها.
وكانت سلسلة مقالات قد انتقدت الأسد بقوة أثارت نقاشات واسعة حول ما وُصف بأنه «تبدل في الموقف الروسي حيال الأسد»، وهو أمر أكدت مصادر تحدثت إليها «الشرق الأوسط» أنه «من السابق لأوانه الحديث عن تغيير أو تبدل في سياسة روسيا في سوريا». لكن في المقابل يُجمع محللون على أن الحملة أظهرت أن «صبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدأ ينفد إزاء الرئيس السوري بشار الأسد، الذي لم يُظهر عرفانه لروسيا التي ساعدته للبقاء في السلطة».
ونقلت وكالة «بلومبرغ» للأنباء عن مصادر مطلعة على النقاشات الدائرة في الكرملين أن بوتين -الذي تعاني بلاده من صدمتي انهيار أسعار النفط وتفشي وباء «كورونا المستجد»، بالإضافة إلى حرصه على إنهاء التحركات العسكرية في سوريا بإعلان تحقيق النصر- يصر على أن يظهر الأسد المزيد من المرونة في المحادثات مع المعارضة السورية بشأن التوصل إلى تسوية سياسية.
ورأى محللون أن «رفض الأسد التنازل عن أي من صلاحياته مقابل الحصول على مزيد من الاعتراف الدولي، وربما مليارات من الدولارات في شكل مساعدات لإعادة الإعمار، أثارت فورات غضب روسية نادرة ضده».
وقال ألكسندر شوميلين، وهو دبلوماسي روسي سابق يدير «مركز أوروبا والشرق الأوسط» الذي تموّله الحكومة في موسكو: «على الكرملين التخلص من الصداع السوري». وأضاف: «تتعلق المشكلة بشخص واحد، وهو الأسد، وحاشيته».
ووفقاً لمحللين فإن «عناد الأسد يسلّط الضوء على المعضلة التي تواجهها روسيا، خصوصاً في عدم وجود بديل للزعيم السوري من أجل التوصل إلى اتفاق. وفي حين استخدم بوتين تدخله الناجح في سوريا في عام 2015 لاستعادة النفوذ الذي تمتعت به بلاده إبان الحقبة السوفياتية كلاعب رئيسي في منطقة الشرق الأوسط، لجأ الأسد إلى المناورة بين موسكو وداعمه العسكري الرئيسي الآخر، وهي إيران، للإبقاء على قبضته على مقاليد السلطة».
كما استفاد الأسد من قوة روسيا العسكرية والدبلوماسية أمام جهود تركيا لتوسيع وجودها في المناطق المتبقية التي يسيطر عليها المسلحون في شمال سوريا، في الوقت الذي سعى فيه إلى استعادة السيطرة على كامل البلاد. وكان دبلوماسيون روس قد وجهوا انتقادات حادة لـ«شعور الأسد بنشوة الانتصار ما يجعله منفصلاً عن الواقع، خصوصاً عندما يتحدث عن فتح معارك جديدة للسيطرة على المناطق التي ما زالت خارج سيطرته».
ورغم أن الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، كان قد نفى أن يكون بوتين غير راضٍ عن الأسد بسبب رفض الأخير تقديم تنازلات للمعارضة السورية، في إطار التفاوض من أجل التوصل إلى تسوية سياسية، فإن خبراء روس أشاروا إلى أنه على مدار سنوات، مارست روسيا ضغوطاً على الأسد خلف الكواليس، للموافقة على تقديم بعض التنازلات السياسية الرمزية، على الأقل، لكسب تأييد الأمم المتحدة لإعادة انتخابه المتوقعة في عام 2021، ولكن هذه الضغوط لم تؤتِ ثمارها.
ولفت خبراء إلى أن بوتين أرسل أخيراً وزير الدفاع سيرغي شويغو، لنقل رسالة واضحة للأسد بضرورة الالتزام بالاتفاق الروسي مع تركيا. وكان الرئيس الروسي قد اضطر قبل ذلك إلى إرسال موفده الخاص ألكسندر لافرنتييف، لتنبيه الأسد إلى ضرورة التعاون مع غير بيدرسن، عندما كان الأخير بصدد تقديم إحاطة حول عمل «الدستورية» إلى مجلس الأمن.
وشكّل الانتقاد الروسي الصريح للحليف السوري إشارات إلى وقوع تغيير جذري في نهج موسكو. صحيح أنه لا يعني «الانقلاب» على الأسد، لكنه كما قال خبراء يعكس قناعة روسية بأن على موسكو أن تتحرك بشكل نشط ومنفرد وأن تضع الأسد أمام استحقاقات.
كانت مؤسسات روسية قد نشرت استطلاعاً للرأي أظهر أن الأسد يحصل على تأييد بنسبة لا تزيد على 32%، وأدرج عدداً من البدائل المحتملة له من داخل النظام السوري ومن المعارضة.
وسرعان ما اختفى الاستطلاع ومقالات حادة اللهجة تجاه الأسد عن المواقع التي نشرتها، لكن بعد أيام، نشر مجلس الشؤون الدولية الروسية، وهو مركز أبحاث للسياسة الخارجية أسسه الكرملين، تعليقاً ينتقد الحكومة في دمشق ويصفها بأنها تحتاج إلى «نهج بعيد النظر ومرن» من أجل إنهاء الصراع.
وفي مقابلة عبر الهاتف، قال ألكسندر أكسينيونوك، وهو دبلوماسي روسي سابق ونائب لرئيس مجلس الشؤون الدولية، وهو من قام بكتابة التعليق: «إذا رفض الأسد قبول دستور جديد، فإن النظام السوري سيعرّض نفسه لخطر كبير».
وفي إشارة إلى أن سبب الغضب الروسي لا يقتصر على محاولة دمشق عرقلة الاتفاق الروسي - التركي بل ينسحب على المماطلة في دفع نشاط اللجنة الدستورية، قال أكسينيونوك، إن المحادثات التي بدأت في جنيف بقيادة الأمم المتحدة، لإعادة صياغة الدستور السوري وإدخال بعض المنافسة السياسية، وصلت سريعاً إلى طريق مسدود عندما قام الجانب الحكومي «بإفساد (المفاوضات) عن عمد».
وبرز البعد الاقتصادي كذلك في الانتقادات الروسية، وأوضح دبلوماسي قريب من الشأن السوري، أن تحذيرات موسكو تعكس حجم الإحباط داخل مجتمع الأعمال في روسيا، من الفشل في دخول الاقتصاد السوري.
كما أشار إلى أن روسيا تدرك أيضاً مدى صعوبة الوضع في البلاد، في ظل فشل الأسد في توفير السلع الأساسية بسبب تفشي وباء «كورونا»، بالإضافة إلى مشكلة الشبكات الفاسدة التي تخاطر بنوع ما من التمرد في مناطق معينة مستقبلاً.
ورغم ذلك، قال مصدر وثيق الصلة بالكرملين إن موسكو اكتفت حتى الآن بإرسال إشارات قوية للقيادة السورية. وقال مصدر آخر مقرب من الزعيم الروسي إن بوتين يرى الأسد شخصية عنيدة خيّبت آماله، وقد استخدم بعض الإعلام لتوصيل رسالته. وأوضح المصدر ومسؤول حكومي، أنه لا يزال من غير الممكن التخلي عن الرئيس السوري، لأنه لا يوجد حليف آخر مناسب في سوريا.