رحلة طويلة ومتشعبة من الكد والبحث عن المعرفة والعلم ومحاربة الفقر والجهل، نفضها عن كاهله العالم الدكتور حامد عمار، شيخ التربويين المصريين والعرب، أحد الرموز المصرية التي أثرت الحقل العلمي والثقافي والتربوي في مصر والعالم العربي، حيث غيبه الموت مساء أول من أمس بمنزله بالقاهرة عن عمر يناهز 93 عاما.
وبمشاعر من الأسى والحزن شيعت أمس الأوساط العلمية والثقافية في مصر العالم الجليل إلى مثواه الأخير ليدفن في مدافن العائلة، ووصفت غيابه بالخسارة الفادحة، لافتين إلى أنه رغم تقدمه في السن، فإنه «كان يؤنسنا بحضوره الصامت العازف عن بريق الأضواء».
عاش حامد عمار حياته من أجل أن يصبح العلم الركيزة الأساسية لتحقيق التقدم والرخاء للمجتمع، وفي كل تجاربه التربوية ومؤلفاته ودراساته الميدانية، كان ينطلق من رؤيته الخاصة لطبيعة المجتمع، وحراكه اليومي وتطلعه للمستقبل، في إطار ميراثه الحضاري والإنساني، فمزج في دراسته بين دوائر الاجتماع والتاريخ والتربية.
وبنزعة إنسانية ظلت سمة ملازمة له، انحاز إلى هموم المواطن البسيط، وعاش طيلة حياته يدعو لأن يكون التعليم مفتوحا للجميع، يتساوى فيه الغني والفقير بلا قيود أو عوائق، مؤكدا أن التعليم مسؤولية الدولة في المقام الأول، ويجب أن يظل دائما قطاعا سياديا كالقوات المسلحة والشرطة والسياسة الخارجية.
ورصد في هذا السياق القيم السلبية التي ينبغي أن نتخلص منها فورا لينصلح حال التعليم، مبرزا القيم الإيجابية التي يجب أن نركز عليها وننميها بطريق ومنهج علمي سليم، كما ربط التعليم بكل سلوكيات حياتنا بداية من المأكل والمشرب وحتى نظام المرور، مؤكدا أن «كل مشكلاتنا مترتبة على عدم وجود نظام تعليمي فعال يسهم في بناء إنسان متحضر، يعرف كيف يعلي من سلطة العقل، ويعتمد عليه في حل مشكلاته، بعيدا عن متاهة وأوهام الخرافة». كما أكد دائما أن التعليم القوي يعني ثقافة قوية راقية تسهم في الحضارة العالمية، بقيمها وخصوصيتها، وأيضا يعني تنمية اقتصادية وبشرية تنتشلنا من هوة التخلف.
ويعد حامد عمار أحد القادة الأكاديميين المتخصصين في مجال التربية في الوطن العربي، فهو الخبير الدولي الرائد في التنمية البشرية؛ وله إسهامات عربية في مجال التربية، حيث ساهم في تأسيس معهد الخدمة الاجتماعية بالأردن عام 1970، وأسهم في برامج مكتب صندوق الأمم المتحدة لرعاية الأطفال (يونيسيف) الإقليمي في أبوظبي بين عامي 1972 و1974، وتأسيس مركز التدريب على العمل الاجتماعي في العاصمة العمانية مسقط.
وساهم أيضا في وضع وثيقة إنشاء الصندوق العربي للعمل الاجتماعي التابع لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب في تونس (1982)، وتأسيس المجلس القومي للطفولة والأمومة بمصر (1988)، وقسم الدراسات التربوية في معهد الدراسات والبحوث العربية التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (2001).
ولد «شيخ التربويين» في 25 فبراير (شباط) 1921 في قرية «سلوا» بمحافظة أسوان، وهي قرية منعزلة في أقصى جنوب مصر، كانت تعاني الإهمال والفقر وعدم توافر الخدمات الصحية والتعليمية مثل آلاف القرى المصرية في ذلك الزمن، لكنه مع ذلك أحب قريته وارتبط بها رغم بساطتها، واعتمادها على الزراعة التي توفر قدرا من الاكتفاء الذاتي.
وشكلت القرية مدارا خصبا لبحثه العلمي، حين جعل منها ميدان بحثه لنيل أطروحاته العلمية، فكانت رسالته للماجستير بعنوان: «بحث في عدم تكافؤ الفرص التعليمية في مصر»، كما اتخذها معولا علميا ميدانيا في رسالته للدكتوراه فكانت تحت عنوان «التنشئة الاجتماعية في قرية مصرية - سلوا - مديرية أسوان» التي حصل عليها من جامعة لندن عام 1952، وتعد أول رسالة دكتوراه تنشر لمبتعث مصري في مجال اجتماعيات التربية عن إحدى دور النشر الأميركية الكبرى، واستمر الطلب عليها منذ عام 1954 حتى 2003.
نال حامد عمار في عام 2008 جائزة النيل في العلوم الاجتماعية، وهى أكبر جائزة للدولة في مصر. وسجل سيرته الذاتية في كتاب حمل عنوان: «خطى اجتزناها.. بين الفقر والمصادفة إلى حرم الجامعة»، مشيرا إلى أنها «رحلة طويلة مذهلة قطعها من مجتمع الزراعة البدائي واقتصاد الكفاف والاكتفاء بموارده الذاتية إنتاجا واستهلاكا، إلى مرحلة آفاق مجتمع العولمة وعصر المعلوماتية».
ومن طوايا هذه الرحلة يذكر شيخ التربويين اضطراره إلى تقديم شهادة فقر كل عام مع شهادة التفوق الدراسي للحصول على مجانية التعليم كل عام، ومدى ما كان يشعر به من ذل ومهانة، ولعل هذا الشعور هو ما دفع به إلى تسجيل أول رسائله الجامعية بعنوان «حول عدم تكافؤ فرص التعليم في مصر».
حامد عمار.. شيخ التربويين العرب يغادر طاولة البحث
https://aawsat.com/home/article/240186/%D8%AD%D8%A7%D9%85%D8%AF-%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%B1-%D8%B4%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A8%D9%88%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8-%D9%8A%D8%BA%D8%A7%D8%AF%D8%B1-%D8%B7%D8%A7%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%AB
حامد عمار.. شيخ التربويين العرب يغادر طاولة البحث
ربط التعليم بسلوكيات المجتمع ونال أرفع جوائز الدولة في مصر
- القاهرة: جمال القصاص
- القاهرة: جمال القصاص
حامد عمار.. شيخ التربويين العرب يغادر طاولة البحث
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة