عبدالرحمن الشبيلي
إعلامي وباحث سعودي
TT

عندما يصبح الإعلام جزءًا من المشكلة

ما من موضوع لاكته الألسن عبر عقدين مثل الإرهاب؛ تعريفه وفكره وبواعثه وآثاره وتمويله وتحريكه وصلة الإسلام به ودور الإعلام والمناهج فيه... إلخ.
ورغم كل ما أفردته المؤتمرات والكتب ووسائل التوعية والتوجيه ومكافحة التطرّف لبحثه ومحاربته، منذ أيام منظمة «كوكلوس كلان» العنصرية في مطلع القرن الماضي، فإن الإرهاب يزداد شراسة وبأسا، والإعلام يراوح مكانه انحدارا وبؤسا، ولوث الفكر المتشدّد والتكفير ينتشر فُحشا ورجْسا، و«القاعدة» فكرا وأفعالا تتمدد، و«داعش» قبحا يتسيّد، وجماعة بوكو حرام بغيا تتشدّد، ودول الربيع العربي تتبدّد، والخطر يداهم الجميع من المحيط إلى الخليج، والنتيجة: لم ينجُ أحد!! فإن سلم الداخل الحدود لم تنج الحدود، وصار الدين والعنف الذي يُقترف باسمه وسيلة للوصول إلى الحكم.
في بداية الظاهرة، ركبت الموجة ثُلَل من الشباب المنخدع بالفكر المتطرف، وانجذبت إليها دفعات من مختلف الأقطار، وانبرت لها أجهزة الأمن حتى صارت تكاليف المكافحة والمناصحة تكتسح الميزانيّات وتشارك الشعوب مأكلها، ومارست خلايا التطرّف، وبعضها باسم الإسلام، صنوف العنف والإرهاب وأبشعها.
غير أن المؤتمر العالمي الأخير - الذي عقدته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة مطلع هذا الأسبوع وشارك فيه 400 مفكّر تحت عنوان «الإسلام ومكافحة الإرهاب» عبر 6 جلسات و40 بحثا - كان مؤتمرا متميّزا، تناولا وشمولا وعمقا، وعلامة فارقة في الطرح الفكري والموضوعي لتشخيص مفهوم مصطلح الإرهاب، ووسائل علاجه، وتأثيره على سمعة الإسلام وأهله، إلى غيرها من الموضوعات.
في حواراته التي دامت 4 أيام في جوار بيت الله الحرام، كثرت التعليلات، بين من يعزو الظاهرة لأسباب سياسيّة (كالمعتقلات وانتهاك حقوق الإنسان) أو اجتماعيّة (كانعدام تكافؤ الفرص والطائفيّة) أو اقتصادية (كالفقر والتهميش وغياب العدل) أو تعليميّة (المتمثّلة في حيف بعض المناهج وفي سوء فهم النصوص كتفسير مفهوم الجهاد والولاء والبراء والحاكميّة الإسلاميّة) ومع عدم التقليل من شأن هذه التأويلات فقد رأى البعض أنها لم تؤسّس لقاعدة مقنعة للجوء للعنف، وفي صوره ونماذجه المعروفة ما يُفنّد تلك المسوغات.
ركّز المتحدّثون على تشخيص المصطلح وتأصيله شرعيّا، وعلى اختطاف الإسلام من قِـبل بعض المتطرّفين، وعلى تبيان ثوابته وسماحته ووسطيّته، وعلى دحض المبرّرات التي يتشبّث بها المتطرّفون، وعلى التحذير - كما قال الشيخ محمد الغزالي - من «اتّباعٍ جاهل» ومن «عاطفة دينيّة منحرفة» واتفق المؤتمرون على أن قضيّة فلسطين تُعدّ من أبرز بواعثه، كما أن الاستهزاء بالأنبياء والرسل قد آذت المشاعر وتسببت في كثير من صور العنف عبر السنوات الماضية، ومع هذا تبقى ظاهرة الإرهاب في وضعها الحالي قضيّة عالمية، لم تعد تقتصر على أوطان محدّدة، فتساوت فيها كل الأمم والمجتمعات.
لكن شيخ الأزهر المشارك في المؤتمر ركز في كلمته القيّمة في الافتتاح على التراكمات التاريخية لنزعات الغلوّ والتشدد في التراث الإسلامي التي نشأت من تأويلات فاسدة لنصوص القرآن الكريم والسنة المطهّرة وأقوال العلماء، ففي هذه التراكمات منزلقات أدّت إلى التكفير لأدنى الملابسات، وهو ما حفظه لنا التاريخ عن بعض الطوائف من الاجتراء على قتل الصحابة، ويعود اليوم إلى الساحة على أيدي التكفيريين، ومن هنا جاءت دعوة فضيلته «لإحكام السيطرة على المناهج لتطهيرها من فوضى اللجوء إلى الحكم بالتكفير والفسق، الذي تسبب في زرع بذور الانقسام بين المسلمين». ودعا فضيلته إلى عقد تجمّع لاحق «لاستثمار الثابت من القواسم المشتركة والتآخي حولها، مع ترك المجال لأهل كل بلد للتمذهب بما نشأوا عليه من مذاهب المسلمين التي درجوا عليها، والاتجاه إلى تصحيح المفاهيم الملتبسة مثل قضية الجهاد والتكفير، وذلك لقطع الطريق على مخطّطات تريد أن تصوغ عالمنا صياغة تحقق أهدافها».
أما الإعلام بشقّيه التقليدي والحديث وهو الشريك الأساسي المفترض في مكافحة الإرهاب، فعوضا عن أن يكون مجهرا لهذه الظاهرة، أصبحت سطوته، إلا ما شاء الله، تُوظف سكّينا للعنف وتحريضا له، وبدلا من أن يكون واسطة للحل أصبح بعضه جزءا من المشكلة، واستطاعت قوى الإرهاب أن تتمكّن منه وتخترق بعضه، وصارت تبدع في تطبيقاته، بل وانزلقت بعض وسائل الإعلام في التسابق إلى تلقّف ما يصدر عن قياداته، فصار البعض من الإعلاميين، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، مطيّة من مطاياه.
والمؤمل في أعقاب هذا المؤتمر أن تتجه نخبة من علماء المسلمين بكل أطيافهم للالتقاء مع أقرانهم أتباع الديانات الأخرى في الغرب والشرق، كي يتبادلوا وجهات النظر تجاه هذه الآفة، والمهم في نهاية المطاف التأكيد على أن الدين الإسلامي براء من فكر العنف، وأنه دين المحبة والعدالة والمساواة وحرمة الدم والعرض والمال.

* إعلامي وباحث سعودي