سيطر «مرض الرئيس» بشكل لافت، على المشهد السياسي في الجزائر خلال عام 2015. ولأول مرة تتعامل السلطات بنوع من الشفافية مع هذا الملف، عندما أعلنت في نوفمبر (تشرين الثاني) أن بوتفليقة أُجريت عليه فحوصات طبية في عيادة متخصصة في جراحة القلب بفرنسا. ورغم أن الرئاسة قالت إن الأمر لا يعدو كونه «فحوصات روتينية»، تجدد الجدل حول مدى قدرة الرئيس على الاستمرار في الحكم.
وطرح قطاع من المعارضة فكرة تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة، بعد تنقل الرئيس إلى فرنسا للعلاج، بحجة أن السلطة مرغمة على اختيار رئيس آخر. وعاد الحديث من جديد حول «من يخلف الرئيس؟»، وعاد معه طرح الأسماء المرشحة لتولي رئاسة الجمهورية، وأبرزها رئيس الوزراء عبد المالك سلال، ووزير الدولة مدير الديوان بالرئاسة أحمد أويحيى، وبدرجة أقل شقيق الرئيس وكبير مستشاريه السعيد بوتفليقة، وقائد أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح الذي أضحى الرجل النافذ في المؤسسة العسكرية، بعد عزل مدير المخابرات محمد مدين. وجرى حديث عن «هيمنة رجال المال على مراكز القرار»، وفهم من ذلك أن كبار أصحاب رؤوس الأموال، المحيطين بالرئيس، هم من سيختارون خليفته حتى يحافظوا على مصالحهم.
غير أن «جبهة التحرير الوطني» و«التجمع الوطني الديمقراطي»، و«تجمع أمل الجزائر» و«الحركة الشعبية الجزائرية»، وهي الأحزاب التي تدعم الرئيس، هاجمت بشدة دعاة الانتخابات المبكرة ودعتهم إلى «انتظار عام 2019، إن كنتم تريدون كرسي الرئاسة»، في إشارة إلى الموعد الرئاسي المرتقب بعد 4 سنوات. ولا يتردد الموالون للرئيس في القول إنه سيترشح لولاية خامسة، لو سمحت له حالته الصحية بذلك.
طرح آخر مثير للجدل، هو «تفعيل المادة 88 من الدستور»، الذي روّجت له أحزاب معارضة وصحف محسوبة عليها. وتقول هذه المادة التي تذكر في الإعلام، منذ أن خضع الرئيس لعملية جراحية في المعدة على إثر نزيف حاد (نهاية 2005): «إذا استحال على رئيس الجمهورية أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير ومزمن، يجتمع المجلس الدستوري وجوبا. وبعد أن يتثبت من حقيقة هذا المانع بكل الوسائل الملائمة، يقترح بالإجماع على البرلمان التصريح بثبوت المانع». وبعدها يعلن البرلمان بغرفتيه ثبوت المانع بأغلبية ثلثي الأعضاء، ويكلف رئيس الغرفة البرلمانية الثانية (مجلس الأمة) بتولي رئاسة الدولة لمدة 45 يومًا. وفي حال استمرار المانع بعد انقضاء هذه المدة، يعلن شغور منصب الرئيس بالاستقالة. ثم يتولى رئيس «مجلس الأمة» رئاسة البلاد مدة 60 يومًا، تنظيم خلالها انتخابات رئاسية.
غير أن المشكلة أن رئيس «مجلس الأمة» عبد القادر بن صالح، هو أيضًا مريض وعاد إلى البلاد منذ فترة قصيرة، بعد أن قضى عدة أسابيع في فرنسا بغرض العلاج. ويقول الدستور إن رئيس «المجلس الدستوري» هو من يخلف رئيس «مجلس الأمة» إذا تعذر عليه ممارسة مهامه. ووقف «أولياء» الرئيس، كما يحلو للإسلاميين تسميتهم، بقوة في وجه المطالبين بتطبيق الترتيبات الدستورية المتعلقة بعجز الرئيس عن أداء مهامه. فقد ذكر العربي ولد خليفة رئيس «المجلس الشعبي الوطني» (الغرفة البرلمانية الأولى)، أنه «ينصح الفعاليات التي تكتب وتقول وتريد أن تستثمر في مرض الرئيس، بالالتزام بالأخلاق واحترام الغير مهما كانت العلاقات التي تربطهم به». وقال إن «أي إنسان، صغيرا كان أم كبيرا وحتى لو ولد بالأمس، يمكن أن يصاب بالمرض لأن ذلك طبيعي عند البشر».
أما عبد القادر بن صالح، فندد بـ«الأصوات الناعقة» التي اتهمها بـ«التهويل من خطورة مرض الرئيس». ودعا من سماهم «دعاة نشر اليأس»، إلى «ترك الرجل يرتاح ليواصل رسالة البناء والتشييد».
2015 عام حالك على جنرالات الجزائر
كان عزل مدير المخابرات العسكرية الجزائرية محمد مدين، بعد 25 سنة قضاها على رأس الجهاز الأكثر أهمية في البلاد، الحدث الأبرز خلال العام والأقوى خلال 10 سنوات على الأقل. لم يكن «الجنرال توفيق»، كما اشتهر بتسميته، الرقم واحد في المنظومة الأمنية وحسب، بل كان متغلغلاً في كل مفاصل الدولة بهيئاتها ومؤسساتها الاقتصادية والاجتماعية. والشائع عنه أنه كان أحد النافذين في مؤسسة الجيش ممن تحمّسوا لتولي عبد العزيز بوتفليقة الرئاسة قبل 16 سنة.
13 سبتمبر (أيلول) 2015 هو يوم فارق لا محالة في التاريخ السياسي المعاصر للجزائر. فالرجل الذي يصنع الرؤساء، وتعود له الكلمة الأخيرة في تعيين رؤساء الحكومات والوزراء ومديري الشركات الحكومية الكبيرة، سقط! «توفيق» يعزل من جهاز المخابرات الذي قاده بيد من حديد، ويحال على التقاعد بقرار من عبد العزيز بوتفليقة الرئيس ولكن بصفته وزير الدفاع.
مسلسل إضعاف الجنرال بدأ في خريف 2013 بعودة بوتفليقة من رحلة علاج بفرنسا دامت 88 سنة، فخلال غيابه رفعت الشرطة القضائية التابعة للمخابرات، خلاصة تحريات دقيقة حول فساد في شركة «سوناطراك» للمحروقات المملوكة للدولة، إلى وزير العدل آنذاك محمد شرفي. الوزير أمر النائب العام بالعاصمة بإصدار مذكرة اعتقال دولية بحق وزير الطاقة السابق شكيب خليل، الذي ورد اسمه في تحريات المخابرات كمتهم رئيسي في رشى وعمولات بقيمة 190 مليون دولار، دفعت في صفقات مع شركة إيطالية نفطية معروفة.
شكيب خليل هو صديق طفولة بوتفليقة، كان أحد أبرز الكوادر بالبنك العالمي في تسعينات القرن الماضي. ولما عاد بوتفليقة إلى الحكم عام 1999 أقنعه بالدخول إلى الجزائر ليمسك قطاع الطاقة، الذي يعد شريان الاقتصاد الجزائري. وهكذا ظل خليل مسؤولا على مصدر رزق الجزائريين، لمدة 14 سنة، يتصرف في القطاع كما يشاء مستفيدا من ثقة الرئيس العمياء ومعتمدا على صداقتهما القوية.
بوتفليقة لم يكن يتوقع أن يتلقى «طعنة في الظهر» من جانب مدير المخابرات. فقد كانت ملاحقة خليل بمثابة «خيانة» له، خصوصًا أنه كان خارج البلاد وفوق ذلك ضعيف بدنيًا يعاني المرض. لذلك لما عاد تصرف في جهاز المخابرات كالثور الجريح، فانطلق في تنفيذ خطة «تفكيكه» بإلغاء الشرطة القضائية الاستخباراتية، ثم إلغاء مصلحة مراقبة الإعلام فيه. ومنه انتقل الرئيس إلى تجريد المخابرات من جهاز الأمن الرئاسي الذي نقله إلى رئاسة أركان الجيش. ثم نزع من «توفيق» جهازًا حساسًا هو أمن الجيش، فألحقه برئيس أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح الذي سيصبح شيئًا فشيئًا الرجل الأول في المؤسسة العسكرية.
بعد هذا أصبح «توفيق» مثل الطير مكسور الجناحين، إلى أن جاءت الضربة القاضية التي تمثلت في ملاحقة مسؤول محاربة الإرهاب في المخابرات، اللواء عبد القادر آيت وعرابي الشهير بـ«حسان»، الذي كان أبرز مساعدي «توفيق». وكانت النهاية بعزل الأخير وتعويضه باللواء بشير طرطاق، مسؤول الأمن الداخلي وأحد رجال «توفيق» الذين اشتهروا بالتشدد مع الإسلاميين المتطرفين. في سياق هذه التغييرات، نحى الرئيس وزير العدل شرفي في أول تعديل حكومي.
وبقدر ما كان سقوط «توفيق» مدويًا، صنع خروجه عن صمته الذي لازمه مدة ربع قرن مفاجأة قوية. ففي 4 ديسمبر (كانون الأول) 2015، كتب الجنرال المعزول رسالة إلى الجزائريين يشكو فيها «ظلما» لحق بمرؤوسه سابقًا الجنرال حسان. الرسالة تذكر بشكل صريح بأن الوقائع التي تمت على أساسها متابعة رئيس قسم مكافحة الإرهاب، ملفقة. وكلام «توفيق» موجَّه بشكل مباشر لرئيس أركان الجيش صالح الذي هو نائب وزير الدفاع لأنه هو من أمر النيابة العسكرية بمتابعة «حسان» الذي اتهم بـ«مخالفة تعليمات قيادة الجيش» و«إتلاف وثائق عسكرية».
في تلك الرسالة المشهودة، قال «الجنرال الجريح»: «لقد أصبت بالذهول جرّاء الحكم الذي صدر عن المحكمة العسكرية لوهران (غرب البلاد)، في حق اللواء حسان»، في إشارة إلى إدانة «حسان» بالسجن 5 سنوات. وجاء في الوثيقة التي كانت بمثابة قنبلة في الساحة السياسية: «فيما يخصّ العملية التي أُدين بسببها بتهمة الإخلال بالتعليمات العامة، فإنني أؤكّد أنّه عالج هذا الملف باحترام المعايير وبتقديم التقارير في الوقت المناسب. بعد النتائج المُرْضية التي تمّ إحرازها في المرحلة الأولى للعملية، هنّأتُه، هو ومساعديه، وشجّعته على استغلال كلّ الفرص السانحة بفضل هذا النجاح. وبالتالي، فلقد سَيّر هذا الملف وِفق القواعد المعمول بها، أي باحترام مدوَّنة العمل والخصوصيات التي تستوجب تسلسلاً عملياتيًا موصى به بشدّة في الحالة المعنية».
ولم يذكر مدين ما هي العملية التي توبع بسببها «حسان». ولا أحد من محاميه الثلاثة خاض فيها أمام الإعلام، والسبب أن قيادة الجيش حرصت على أن تظل طي الكتمان، وحتى المحاكمة جرت في سرية ومنع أفراد عائلة المتهم من حضورها. كل ما هو معروف أن مهرب سلاح كان بمثابة «عين» الجنرال داخل عصابات تهريب السلاح في الصحراء الجزائرية الكبرى، هو شاهد إثبات في القضية. ما عدا هذا فالمهمة التي كانت سببًا في سجنه، تظل لغزًا محيرًا.
وأثنى «توفيق» على الجنرال السجين، باستعمال عبارات الشكوى ما أثار دهشة كل المتتبعين؟ إذ كيف لـ«هيلمان» في الدولة أن يستجدي شفقة الجزائريين من جهاز القضاء العسكري الذي كان يأتمر بأوامره، ومن مؤسسة الجيش التي كان الآمر الناهي فيها؟!
ومما جاء في الرسالة أن المتهم المدان «كرّس نفسَه بشكل كامل من أجل هذه المهمّة، وقاد عمليات كثيرة أسهمت في ضمان أمن المواطنين ومؤسّسات الجمهورية، بحيث لا يمكن التشكيك في إخلاصه وصدقه في تأدية عمله. إنّه ينتمي إلى تلك الفئة من الإطارات القادرة على تقديم الإضافة المتفوِّقة للمؤسّسات التي يخدمونها». وأضاف مدين: «إن الأمر المستعجل اليوم يَكْمُن في رفع الظلم الذي طال ضابطًا خَدَم البلد بِشَغَفٍ، واسترجاع شرف الرجال الذين عملوا مثله بإخلاص تامّ من أجل الدفاع عن الجزائر». وأهم ما في كلام «توفيق» أنه وصف القضاء العسكري بـ«الظالم»، وهو هجوم حاد على من أمر بمتابعة «حسان» في المحكمة العسكرية.
بعدها انطلقت الآلة الدعائية المعروفة بتبعيتها للرئيس ومحيطه، ضد «توفيق». قطاع من الإعلام المكتوب وسمعي البصري شن حربا حادة ضده، فتم نعته بكل الأوصاف واتهم بـ«الزجّ بالآلاف من كوادر القطاع الاقتصادي في السجون، بناء على تهم واهية». وقيل عنه إنه «بدل أن يعطينا حلولاً لأزمات الجزائريين، اختزل خروجه عن صمته في الدفاع عن صديقه».
وفي القضية وتشعباتها، ظهرت جزئية مهمة للغاية. فقد دافع وزير الدفاع الأسبق اللواء خالد نزار عن «حسان». وعدّ ذلك «سندًا نوعيًا» له وللجنرال محمد مدين. فأصبحت المعادلة كالتالي: جناح في النظام يقوده الرئيس بوتفليقة وشقيقه السعيد ورئيس أركان الجيش ورئيس الوزراء عبد المالك سلال، وقوة مالية ضخمة يمثلها رجال أعمال. وجناح آخر يمثله المغضوب عليهم في الجيش والمخابرات.
وقال نزار معلقًا على الحكم القضائي الذي فجّر أحقادًا دفينة بين النافذين في النظام: «قسوة الحكم بالسجن هو ما دفعني إلى الخروج عن صمتي، الذي التزمت به طيلة مراحل التحقيق في القضية».
وأوضح نزار بأن التهم التي وجهت للضابط «حسان»، «ما كان ينبغي أن تأخذ طابعًا جزائيًا، فهي في الأصل ذات طابع تأديبي»، مشيرًا إلى أن الجهة التي تابعت الجنرال، كان ينبغي أن تحاسبه في إطار العقوبات الإدارية الداخلية للمؤسسة العسكرية وفقط. معنى ذلك أن التهمة سياسية وأن الهدف الحقيقي هو ضرب «توفيق» وليس متابعة «حسان».
غير أن أبرز ما تضمنته رسالة من يوصف بـ«العدو اللدود للإسلاميين»، أن محمد مدين رفع رسالة إلى بوتفليقة قبل عزله، يقول فيها إنه شرح للرئيس كل تفاصيل هذه القضية، وذكر أنه يتحمل تبعات قضية حسان من موقع مسؤوليته المباشر. وأوضح نزار بأن مدين لم يتلق جوابا على رسالته. معنى ذلك أن بوتفليقة أو ما يعرف بـ«جماعة الرئيس» كانت قد فصلت في مصير «توفيق» بالعزل، وفي مصير مساعده الأبرز بإدخاله السجن.