إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

صدمة ليونارد كوهين

أن تعرف مُتأخرًا خير من ألا تعرف أبدًا.
لا أدري إن كانت هذه العبارة مريحة أو باعثة على السخط. فقد كنت أفضل ألا أعرف أن ليونارد كوهين، الكاتب والمغني والمؤلف الذي رحل قبل أيام، كان صهيونيًا.
هو يهودي من مواليد كندا. اسمه يدلّ عليه. ولا اعتراض على انتمائه الديني. ونحن، في العراق، لم نتوقف عن حب مطربتنا الكبيرة سليمة مراد، اليهودية التي ولدت وماتت بيننا، ولا حكمنا بالإعدام على أغنيتها التي كانت تعتبر النشيد العاطفي للمحبين: «قلبك صخر جلمود ما حنّ عليّ». وما زال المصريون، وكل العرب، يطربون لصوت ليلى مراد، ابنة الملحن إبراهيم زكي موردخاي، ويغنون معها: «أنا قلبي دليلي». فأن تكون يهوديًا قضية وراثة. وأن تكون صهيونيًا فموقف واختيار.
تسلل صوت ليونارد كوهين إلى أسماع الشباب العرب، في السبعينات والثمانينات، مثل أصوات كثيرة كانت لها شهرتها في العالم. توم جونز وبتولا كلارك وشيرلي بيسي وشارل أزنافور وديميس روسوس وجوان بايز وخوليو إغليزياس وليو فيري وبوب ديلان وجاك بريل وغيرهم. وكان لنبرة كوهين جاذبية خاصة. وبعد تجاوز قلق الاسم، فإن ذلك الصوت الخافت عرف كيف يتمتم كلمات لها وقع عميق في النفوس. كان شاعرًا رقيقًا لا يكتب للحبيبة فحسب بل يدعوها لأن تتأمل الكون من حولهما.
رحل المغني وفوجئت على «النت» بعناوين من نوع «موت الشاعر الكبير والمغني ملهم الجيش الإسرائيلي»، أو «الصهيوني الكبير ليونارد كوهين يموت عن 82 عامًا». رأيت صورة له، في شبابه، يقف بجانب إرييل شارون ومجموعة من الجنود الإسرائيليين. كان ذلك في الحرب التي يسميها العدو يوم الغفران ونسميها العبور وانتصار أكتوبر. ويكتب المغني أوشيك ليفي، أحد الذين رافقوه، يومذاك: «وصلنا عند منتصف الليل إلى حفرة. رأينا ثمانية جنود في متاهة، ومعهم مدفع 175 ملم. وكان يفترض أن نبقى هناك ونغني لنرفع معنوياتهم. وفي منتصف الغناء، قاطعنا أحد الضباط، وطلب أن ننتظر لحظة. أخذ المدفع وأطلق النار، ثم واصلنا العرض. كانت حربًا فظيعة. وكنا نقدم ثمانية عروض في اليوم، طيلة أيام الأسبوع. وأحيانًا عشرة عروض. وبقي ليونارد كوهين معنا ثلاثة أشهر. وحيثما كنا نتنقل كان يشترك معنا. وفي إحدى المرات أراد أن يلتحق بالمظليين، ثم بالبحرية، كما سعى لأن يكون طيارًا. كنا ننام على الأرض مباشرة، في أكياس للسفر. وهو كذلك، لأنه رفض أن يبدو نجمًا مختلفًا ويبيت في مكان أفضل».
كان المغني يقيم في اليونان ويقوم بجولات عالمية. ولم يبقَ في إسرائيل. وأقرأ في موسوعة «ويكيبيديا»، بنسختها العربية أنه سُئِل عن الطرف الذي يناصره، العرب أم الكيان الصهيوني. وأجاب أنه لا يود الحديث عن الحروب أو الأطراف المتنازعة. فالإحساس الشخصي والانتماء الذي يحمله الشخص إلى جذوره وأصله شيء، أما الالتزام الذي يمارسه كإنسان وككاتب فهو شيء آخر.
هل يتغيّر المرء مع العمر وتختلف قناعاته؟ في عام 1994 اعتنق كوهين البوذية. انسحب من الحياة الاجتماعية واختار ديرًا بوذيًا على جبل بالدي، في كاليفورنيا، مقامًا له. مارس عزلة أقرب إلى التصوف. وبعدها بسنتين جرى ترسيمه كاهنًا باسم «جيكان»، أي الصامت. وفي سنواته الأخيرة خسر أمواله بسبب تلاعب مدير أعماله. وهكذا عاود الغناء والجولات الفنية، منفردًا أو مع ابنه آدم. وقدّم نفسه نصيرًا للتضامن والمحبة بين البشر. مع هذا، فإن من الصعب نسيان صورته في سيناء مع شارون، جزار الانتفاضة الفلسطينية.
أعود إلى كلمات أغنيته التي أحببت، وأجد نفسي أقرأها بعين جديدة:
دعيني أرَ جمالك حين يذهب الشهود
دعيني أشعر بكِ تتحركين كما فعلوا في بابل
أريني ببطء ما أعرف وحدي حدوده
ارقصي لي حتى نهاية الحب