جوسلين إيليا
إعلامية وصحافية لبنانية عملت مقدمة تلفزيونية لعدة سنوات في لندن وبيروت، متخصصة في مجال السياحة.
TT

طبيب في المطبخ!

قرأت إحصائية تفيد بأن الهند تدرب أكثر من مليون ونصف المليون مهندس، وهذا الرقم يتعدى عدد المهندسين في الولايات المتحدة والهند مجتمعتين.
وتلا الإحصائية سؤال عن سبب دفع الأهالي في الهند بأبنائهم ليتخرجوا في كليات الهندسة، في حين أن هذا العدد الهائل من الخريجين في هذا المجال سيواجه مشكلة جسيمة في معترك الحياة المهنية؛ إذ سيكون من شبه المستحيل تأمين الأعمال والوظائف للمتخصصين في مجال واحد.
الهنود، مثل شعوب البلدان الشرق أوسطية، يرون أن المهن المحترمة التي لها القدر والقيمة تنحصر فقط في مجالات: الطب والهندسة والمحاماة.
وفي كثير من الأحيان ترى أطباء يعشقون الطبخ، ومهندسين يتنشقون الموسيقى، ومحامين يتنفسون الرسم. ولكن هل يجرؤ أي منهم على ترك وظيفته الذهبية والمشي وراء أهوائه؟ بالطبع لا... فلو تجرأ الطبيب المغلوب على أمره على تفضيل قلبه على عقله واختيار ما يحبه، فسيقف له أهله بالمرصاد، وقد تكون النهاية وخيمة.
أجريت مقابلات كثيرة مع طهاة من الدرجة الأولى، وفوجئت في كثير من المرات بأن الناجحين منهم لم يتخرجوا في المدارس الفندقية ولا مدارس تعليم الطهي؛ فهم يأتون من خلفية دراسية مختلفة تمامًا؛ بعضهم يأتي من خلفية اقتصادية، والبعض الآخر درس الهندسة، أو حتى الطب، ولكن رغبتهم وحبهم وشغفهم بالمطبخ جعلهم يرمون بشهاداتهم في علب تخزين الذكريات، أو الاكتفاء بتعليقها على الحائط، ويلحقون بحلمهم وحبهم الحقيقي، غير آبهين لما يقوله الأهل والجيران والأصدقاء.
وعندما سمعت تلك القصص المشوقة، حزنت على سجناء الوظائف التي فرضت عليهم، وشعرت بالفخر تجاه هؤلاء الذين يملكون الشجاعة للمضي وراء مشاعرهم وشغفهم وحبهم الذي يترجم في غالبية الأحيان في المطبخ، لأن الطهي عملية تفوق النكهة وإشباع المعدة، بل هو فن لا يتقنه إلا من يفهمه ويعشقه.
فهل يجرؤ أي طبيب أو مصرفي على الوقوف أمام ذويه للتعبير عن رغبته في ترك مهنته للتفرغ لهواية؟ الجواب: شبه مستحيل.
ففي مرة من المرات أجريت مقابلة مع طاهٍ من أم إنجليزية وأبٍ عراقي، وروى قصته التي بدأت في أهم مصارف لندن لينتهي به المطاف في المطبخ. ولن أنسى عبارة قالها لي: «كنت أبتكر الوصفات في الوقت الذي كنت أعقد فيه الصفقات على الهاتف من وراء مكتبي». ووصف لي اليوم الذي أخبر فيه والديه بأنه سيترك عمله لتعلم الطهي والتفرغ له؛ بأن والدته شجعته، في حين وصف والده خطوته بالناقصة، وحزن جدًا على مستقبل ابنه الواعد في عالم المال والأعمال. ولكن بعد نجاح الطاهي الشاب في عالم الطهي ورفع اسم بلده في العالي، عاد والده إلى صوابه، واليوم هو من بين أهم المشجعين له، وهذا الأمر إذا دل على شيء، فإنما يدل على عقليتنا المتحجرة التي تصنف الناس حسب مهنهم.
كل مهنة مطلوبة، وكل مهنة مهمة، ولا بد من أن يقوم بها أحد، ولكن الأهم هو التخلي عن العقلية البالية. في الماضي كان الطهي يقتصر على طبقة معينة من المجتمع، أما اليوم فتحول إلى مادة تدرس في المدارس.
العمل إذا فرض علينا، يكون شأنه شأن الزواج المدبر؛ فالمهنة يجب أن تبنى على الشغف، ويجب أن تكون أشبه بعصفور توّاق للحرية لا تحده إلا زرقة السماء وليس ألسنة البشر.