إميل أمين
كاتب مصري
TT

الدب يرفض الإملاءات

على لسان وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو تكلم الدب الروسي الأيام القليلة الماضية ساخراً من الأسد البريطاني الذي ناب عنه وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون.
على هامش مؤتمر ميونيخ كان الأخير يطالب بمنع «الدب الروسي من أن يغرس مخالبه في ليبيا»، ما دعا شويغو لأن يستحضر مثلاً شعبياً روسياً قديماً: «جميع الأسود قطط، لكن ليست جميع القطط أسوداً».
هي روح «كليلة ودمنة» إذن تم استحضارها ما بين موسكو ولندن، لا سيما أن شويغو قطع بأنه «لا يوجد وحش في حديقة الحيوانات التابعة للبريطانيين قادر على فرض إملاءاته على دب الغابة».
ما الذي يزعج فالون من موقف روسيا في ليبيا؟
ليس جديداً القول إن التلكؤ والتردد الأميركي والأوروبي قد أتاح مساحة واسعة للدبلوماسية والعسكرية الروسيتين لملء الفراغ الذي حدث في ليبيا، بعد إسقاط النظام السابق، والحديث عن التعاون العسكري بين البلدين ماض قدماً، والجميع يتحدث عن مخططات روسيا في ليبيا، وكيف لها أن تكون تجربة ثانية ناجحة بعد سوريا.
أضف إلى ذلك أن روسيا بدأت تضع قدميها في ليبيا عبر صفقات النفط، فقد فتحت شركة «روسنفت» النفطية الروسية العملاقة الطريق أمام الاستثمار الروسي في قطاع النفط في ليبيا، بعد أن وقعت اتفاق التعاون مع المؤسسة الوطنية الليبية، كما أعلن في فبراير (شباط) الماضي.
تبقى «روسنفت» الأداة الضاربة للاستثمارات الروسية خارج الأراضي الوطنية، واختيارها لليبيا من الناحية الاقتصادية يمكن أن يقرأ على أكثر من مستوى تحليلي؛ فبداية، تعود روسيا إلى ليبيا لاسترجاع منطقة نفوذ اقتصادي دانت لها عقوداً طويلة قبل تدخل الناتو العشوائي، وهو بعد متصل بالمكاسب المالية والاقتصادية للدب الروسي، ويعني قطع الطريق على الأسد البريطاني ومن لف لفه من الجيران الأوروبيين في العودة من جديد لاستغلال نفط وغاز وثروات الليبيين.
بينما الأمر الآخر هو النفوذ الجيوسياسي الذي مفتاحه التعاون الاقتصادي، الذي يستتبعه بالضرورة، وربما هو سابق عليه، الحضور العسكري الروسي على الشاطئ المقابل لأوروبا، ما يعني الاقتراب من الحضور التقليدي لهيمنة الناتو في البحر الأبيض المتوسط.
هل المسألة الليبية هي سبب الشجار القائم وربما القادم بسخونة أكثر بين الدب والأسد؟
في أوائل أغسطس (آب) 2016، أكدت رئاسة الوزراء البريطانية أن رئيسة الوزراء تيريزا ماي أجرت محادثات هاتفية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للمرة الأولى منذ توليها المنصب، فيما الكرملين من جانبه أشار إلى أن الطرفين أعربا عن عدم رضاهما عن الوضع الراهن للعلاقات الروسية البريطانية وتعهدا بتحسينها...
لم تفلح دبلوماسية الاتصالات الهاتفية في واقع الأمر في تغيير حقيقة المشهد الملتهب بين لندن الوكيل الأوروبي ورأس حربة الناتو في أوروبا، وبين الدب الذي تحول إلى ثعلب صغير رشيق الحركة، نافضاً عنه إخفاقات العهود البلشفية، والذين أدركوا حقيقة التغيرات التي طرأت على الحالة الاستراتيجية العسكرية للدب الروسي يزعجهم المآل الذي بات عليه الأسد البريطاني.
خذ إليك ما صرح به في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي السير جون سويرز الرئيس السابق للاستخبارات البريطانية الخارجية MI6 من أن «حجم النمو الذي أحرزته القوة العسكرية الروسية على مدى الأعوام الـ10 الماضية يحتاج إلى تطوير علاقات استراتيجية جديدة مع موسكو».
ليس هذا فقط، بل إنه «على الغرب أن يدرك أن ميزان القوة في العالم قد تغير بسبب ازدياد القوة العسكرية الروسية وزيادة عزمها على استخدام القوة».
سجال الدب والأسد يكشف لنا عن حالة مراجعة من الغرب للخطأ القاتل الذي ارتكبته القيادات ذات الأيادي المرتعشة هناك، لا سيما حيال الملف السوري، سواء كان القرار بيد باراك أوباما أو ديفيد كاميرون.
العقول الأوروبية والأميركية ذات الدالة العميقة على التحليل الاستراتيجي، ومنهم السير سويرز تقطع بأن صعود الدب الروسي على خشبة مسرح الأحداث العالمية، كان بسبب غياب اللاعبين الغربيين الذين تواروا بشكل خاص خلف أستار من عدم اليقين والإحجام، بعد استخدام نظام الأسد الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، فيما أرسل بوتين حاملة طائراته اليتيمة، وقبلها طائراته الحديثة، عطفاً على جنوده وصواريخه، وأسلحته المتقدمة، ليضحى الدب سيد الغابة هذه المرة ويتوارى من ورائه الأسد، وبدا أن النسر الأميركي بدوره في مرحلة تجديد شبابه وغير قادر على الرؤية السديدة، ناهيك عن التحليق عالياً في عالم الصراع بين جيوبوليتيكا البحر والبر.
ينحو المشهد من الحرب الباردة إلى الساخنة بسرعة كبيرة، وها نحن نرى بريطانيا من جديد تطالب الناتو بزيادة التسلح لمواجهة التحديات، والوزير فالون يتهم الروس باستخدام سلاح «التضليل»، في تحذير واضح حيال الحرب الإلكترونية، وسؤال مثير يعاد طرحه: «هل اخترقت روسيا الانتخابات البريطانية التي جرت في عام 2015؟».
السيدة ماي التي تباحثت مع بوتين حول تحسين العلاقات نراها تعهد إلى الأسطول الملكي البريطاني بأن يقوم بمهمة في البحر الأسود من خلال المدمرة «دايموند»، في أول مهمة هناك منذ نهاية الحرب الباردة، وذلك لإظهار القوة الفعالة للأسد البريطاني، غير أن العالمين ببواطن الأمور يدركون قدر تراجع القوة العسكرية البريطانية في مواجهة الروسية.
قبل أيام أعلن شويغو أن روسيا أكملت طوقها الراداري المضاد للهجمات النووية، كما أن 99 في المائة من قوات صواريخها الاستراتيجية في حالة استعداد قتالي؟
من يقدر إذن على أن يملي إرادته على الدب الروسي؟