فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

«جنيف4»... من الرابح؟

أسدل الستار على مسرح «جنيف4»، وأعلن المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، ما سماه «برنامج النقاط الأربع» باعتباره المهمة المقبلة في مناقشة القضية السورية بين النظام والمعارضة، مضيفاً إلى النقاط الثلاث؛ طبيعة الحكم، والدستور، والانتخابات، موضوعاً رابعاً، هو محاربة الإرهاب وبناء الثقة، سيجري الاشتغال عليها معاً في الفترة المقبلة ما بين جنيف وآستانة، باعتبار أن العمليتين «تكملان وتدعمان بعضهما البعض».
إعلان دي ميستورا عن محصلة «جنيف4»، كان تأكيدًا لأغلب وجهات النظر القائلة إن «جنيف4» فشل، وإنه عجز عن تحقيق أي تقدم في معالجة القضية السورية، وتم ترحيل الموضوع إلى «جنيف» مقبل، بانتظار تغيير البيئة المحيطة بالقضية السورية في بعدها الداخلي من الناحيتين السياسية والميدانية، وفي بعدها الخارجي الإقليمي والدولي.
وكما هو معروف، فإن فشل «جنيف4»، لم يكن مفاجئاً، بل كان أمراً متوقعاً من جانب الكثيرين، بمن فيهم الروس الذين جهدوا في الأشهر الأخيرة، بمشاركة الأتراك والمبعوث الدولي، وأصروا وضغطوا من أجل انعقاده، وهو أمر يدفع للسؤال عن الدوافع التي جعلت الروس يسعون إلى عقد «جنيف4» في وقت لا يتوقعون نجاحه للوصول إلى حل للقضية السورية، وفي الحد الأدنى فتح أبواب جديدة في طريق الحل السياسي على نحو ما آلت إليه النتائج.
وقبل الدخول في تفسير تناقض الموقف الروسي ما بين توقع فشل «جنيف4» وسعيهم لانعقاده، لا بد من تذكيرٍ بأن الحل الروسي للقضية السورية يختلف بصورة جذرية عن إطار الحل السياسي الذي يسعى إليه المجتمع الدولي عبر «جنيف»، بما في ذلك القرار الدولي «2254»، بما يعنيه من انتقال سياسي، وتغيير في طبيعة النظام الحاكم ومستقبل بشار الأسد، وأنهم أقرب إلى رؤية حلفائهم الإيرانيين ونظام الأسد في حل يتضمن تغييرات سطحية، لا تمس جوهر النظام وطبيعته من جهة، وتعيد تأهيله في المستويين الداخلي والخارجي، وهو ما تؤكده مجريات سياساتهم في الداخل السوري من جهة، ومواقفهم في المستوى الدولي، وبالتالي فإنه لم تكن هناك مراهنات روسية على «جنيف4» في المضي نحو حل سياسي للقضية السورية، بل إن هدفهم لم يكن يتجاوز فكرة انعقاد «جنيف4» دون النظر إلى نتائجه في موضوع الحل السياسي أو البدء فيه على الأقل، وهذا ما يعيدنا إلى الأهداف الروسية من وراء «جنيف4»، التي يمكن تلمسها في مستويين:
الأول يتعلق بسياسة موسكو في التعامل مع الداخل السوري، وفي هذا المستوى يمكن القول إنه لم تتم أي تغييرات في موقف الروس من نظام الأسد في سياساته وممارساته، خصوصًا استمراره في عملياته البرية والجوية وما تسببه من قتل وتدمير، وسعي نحو استعادة المناطق الخارجة عن سيطرته بمساعده حلفائه، وسط دعم روسي مستمر ومتواصل لتقوية مسار الغلبة العسكرية، لا الحل السياسي، وهذا هدف روسي أول.
وترافقت هذه السياسة الروسية مع مساعي تطويع التشكيلات المسلحة للمعارضة، خصوصاً بعد معركة حلب، التي شكلت هزيمة للأخيرة، وجعلتها قابلة للمجيء إلى الملعب الروسي، والتعاطي مع طروحات موسكو، لا سيما أن الأخيرة أفردت حيزاً مميزاً لممثلي تلك التشكيلات في المفاوضات المرتقبة حول القضية السورية، وترافق المسار الروسي في التعامل مع التشكيلات المسلحة مع الهجوم على الهيئة العليا للمفاوضات، ورفض أي دور لها في المفاوضات من جهة، والدفع نحو بروز أطراف من خارج الهيئة، لتكون في المفاوضات، بالتركيز على حضور منصتي موسكو والقاهرة، وبالتالي خلق مستوى من البلبلة والتنافس الواصل إلى حد تدافع المعارضة على التمثيل والحضور في «جنيف4»، بغض النظر عن خطابها وأدائها، وهو ما تكرس فعلاً، وأساء للمعارضة أكثر من أي شيء آخر، وهو أحد الأهداف الروسية المؤكدة.
المستوى الثاني خلق وقائع جديدة فيما يحيط بالحل الدولي للقضية السورية، لعل الأبرز فيها الاتجاه نحو خلق خط موازٍ لمسار «جنيف»، ولم تكن مساعي موسكو تكريس «آستانة» خارج هذا السياق، بما تعنيه «آستانة» من رمزية المكان في علاقاته مع الروس ومن مكان لتطبيع العلاقات الروسية مع ممثلي التشكيلات المسلحة، وهو مسعى متوافق مع مساعي روسيا السابقة، لجعل موسكو محطة للتأثير على جماعات وشخصيات من المعارضة السورية، لا تتفق، ولا يتوافق بعضها مع أطراف المعارضة الأخرى، وكلاهما من شأنه تعزيز الحضور والدور الروسي في الحل السوري.
والجانب الثاني في هذا المستوى هو استغلال الظروف الإقليمية والدولية المحيطة ببيئة الصراع السوري، لا سيما الحاجة التركية لدور في سوريا أكثر فاعلية وتأثيراً في وقت يبدي الغرب الأميركي - الأوروبي أقل اهتمامات بدور تركيا، بل إنه يعارض دوراً فاعلاً ونشطاً لها، ويعطي دعماً مباشراً أو غير مباشر لخصوم أنقرة من أكراد حزب الاتحاد الديمقراطي وإيران على التوالي، مما دفع تركيا للتحول نحو موسكو، بل ومشاركتها في مساعي التهيئة لانعقاد «جنيف4»، رغم الاختلافات الجوهرية في رؤية الطرفين للقضية السورية وآفاق حلِّها، وتشكل الوقائع الجديدة هدفاً روسياً آخر.
لقد حققت روسيا أهدافاً مهمة ليس من «جنيف4»، وإنما من خطوات تمت قبله وخلال انعقاده. وحيث فشل «جنيف4» في تحقيق أي تقدم كان يسعى إليه أو يتمناه الآخرون على طريق الحل السياسي للقضية السورية، فقد سعت موسكو إلى تحميل المعارضة، خصوصاً الهيئة العليا للمفاوضات، مسؤولية فشل اجتماعات «جنيف»، حسبما قالت الخارجية الروسية، رغم معرفتها أن موقف حلفائها، وتراخي المجتمع الدولي هما المسؤولان عن فشل «جنيف4». لقد ربح الروس وخسر الآخرون جميعهم!