إميل أمين
كاتب مصري
TT

حتى لا يضحى قرناً آسيوياً

هل كان اختيار الرئيس ترمب، سواء من قبل النخبويين أو الشعبويين في الولايات المتحدة، اختياراً عشوائياً؟ يرفض المرء أن يصدق ذلك، ففي الدولة الأولى حتى وإن كانت المتقدمة بين متساوين، لا تغيب الأهداف الكبرى للكيانات الإمبراطورية عن أعين أصحابها وأذهانهم.
يوماً تلو الآخر، يتبين لنا أن انتخاب دونالد ترمب يتوافق مع الاستراتيجيات الكبرى للولايات المتحدة... أن تبقى مهيمنة اقتصادياً على العالم، وفى هذا يبرع الرجل صاحب كتاب «فن عقد الصفقات»، وعسكرياً عبر فرض السطوة والقوة وضمان السيادة على العالم، ما يفسر لنا الدعم الظاهر قليلاً، والباطن كثيراً جداً، للمجمع الصناعي العسكري الأميركي وجنرالاته تحديداً لترمب.
تاريخ الأمم لا تحدده النيات الطيبة، وإنما إدراك موضوعي صادق للحقائق الميدانية وموازين القوى التي تحكم لعبة الأمم... هل يدلنا أحدهم على نية الولايات المتحدة الحقيقية؟
الاستراتيجية التي لا تغيب عن أعين «الدولة الأميركية العميقة»، هي فكرة القرن الأميركي، وقد تبلورت بصورة خاصة في عام 2010 عبر استراتيجية «الاستدارة نحو آسيا»، بمعنى قطع الطريق على الصين والهند وروسيا وجميع الدول التي تدور في فلك مجموعة «البريكس»، ذلك كي لا يضحى القرن الحادي والعشرون قرناً آسيوياً.
ليس عشوائياً أيضاً، ولا مصادفة قدرية أو موضوعية، أن يتحدث ترمب عن الاهتمام بالداخل الأميركي، اقتصادياً وهيكلياً، بنيوياً واجتماعياً، حتى لو لزم الأمر التعاطي مع الحليف الأوروبي قسراً ليدفع ما عليه من مستحقات، أو لشراء المنتجات الأميركية، مثلما طالب الألمانَ بشراء السيارات الأميركية، فتأثير أي دولة عظمى يرتبط بعدة عوامل للقوة رتبها مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبيغنيو بريجنسكي، من قبل، وفى المقدمة منها القوة الاقتصادية وأسفل السلم القوة المسلحة وإمكاناتها.
الهيراركية التي رسم معالمها بريجنسكي، تبدت واضحة في خطاب الرئيس ترمب الأخير أمام الكونغرس الأميركي، وملامح الاستراتيجية الأميركية، والعزم على تنفيذها بدقة وسرعة بالغتين واضح جداً من خلال التمويل المتزايد لموازنة البنتاغون، حتى تبقى القوة العسكرية هي الضمان للحفاظ على مصالح أميركا الاقتصادية، في علاقة تبادلية مستمرة ومستقرة.
54 مليار دولار يطلبها ترمب، كإضافة للنفقات العسكرية الأميركية للعام المقبل... هل هو يفي بوعده للجنرالات أم أنها المواجهة الحقيقية ذات الوجهين مع آسيا تحديداً؟ والسؤال الذي يزعج الأميركيين خاصة والغرب عامة... «كيف يستطيع التكيف والازدهار في قرن تبدو ملامحه آسيوية؟»، روسيا ناهضة بقوة، وبوتين يحذرهم من محاولات ترويض الدب، ووضع الأغلال في عنقه لنزع مخالبه وقلع أنيابه، والصين باتت توجه صواريخها النووية، على قلة عددها، حيثما تشاء، توقعاً لحرب كونية تنطلق في بحرها الجنوبي.
يراهن الآسيويون على «تآكل التفوق الأميركي العسكري» وبنوع خاص تراجع واشنطن وقدرتها عن حماية حلفائها الآسيويين في مواجهة القوة المتنامية للصين.
يفسر لنا ذلك لماذا كان شينزو آبي رئيس وزراء اليابان الضيف الأول على الرئيس المنتخب حديثاً، لا سيما أن اليابان هي أحد أضلاع الرأسمالية العالمية الثلاثة.
تحتاج الولايات المتحدة بالضبط لكي يكون القرن الحادي والعشرون قرناً أميركياً بامتياز إلى مواءمة ما بين رؤية رجل الأعمال ودهاء عقد الصفقات، وخشونة رجالات الحرب، والقابضين على جمر المواجهات المسلحة براً وبحراً وجواً.
التصدي لبكين وموسكو ومن لفّ لفهما يحتاج من واشنطن اليوم إلى مواصلة البحث والتطوير الدفاعي، وتأمين الأسلحة والحفاظ على تدفق التكنولوجيا بطرق أكثر إبداعية.
الذين يرسمون لترمب خريطة العالم اليوم وعوا جيداً إخفاقات بوش الابن الذي أقدم على خوض الحروب دون سند من شرعية دولية أو حلفاء يدعمونه، وكذا أخذوا في عين الاعتبار تكاليف الخسائر التي ترتبت على إحجام أوباما عن الدخول إلى معترك الأزمات، والاكتفاء بالقيادة من وراء الكواليس، ولهذا بات يشغلهم في الحال والاستقبال، البحث عن صيغة جديدة، لتحقيق التوافق والتوازن بشأن المسائل المتعلقة بشرعية استخدام القوة، وفي هذا الإطار يفهم المرء بنوع خاص معنى ومبنى حديث ترمب عن مواجهة الإرهاب مع الحلفاء من العالم الإسلامي بنوع خاص.
خطاب ترمب للأوروبيين يصب في السياق نفسه، فالمسألة برمتها هي أنه يطلب من الشركاء الأوروبيين المزيد من التقدير للدور الأميركي صاحب التفوق العسكري التاريخي في الماضي والحاضر والمستقبل، ذلك أنه إن كان هذا الدور قد ضمن للأوروبيين نصراً عزيزاً على النازيين والفاشيين في الحرب العالمية الثانية، فإن المطلوب فيه الآن توفير حماية آمنة ومستقرة للنظام الجيوبولتيكي الآسيوي من جهة، وفي المدى الجغرافي لأوراسيا من ناحية ثانية.
المفارقة الحقيقية في الرؤية الأميركية تتصل بمدى القدرة على تحقيق التفوق الاقتصادي وضمان الهيمنة العسكرية مع واقع حال الاقتصاد الأميركي الآني، فقبل بضعة أيام كشف الموقع الاقتصادي المختص بتعداد الدين القومي الأميركي أنه يدور الآن حول 20 تريليون دولار، وتبلغ الفائدة السنوية على هذا الدين ما يصل إلى 444 مليار دولار، ما يعني أن كل مواطن أميركي محمل بدين خارجي قدره 160 ألف دولار... هل ترمب قادر على اجتراح المعجزة؟
الحقيقة التي لا مراء فيها أن الإمبراطوريات الكبرى تاريخياً لا يهزمها خصومها في صراعات مباشرة إلى النهاية، وإنما تتولى هي هزيمة نفسها بالإفراط في استعمال القوة، وفى الغرور، لا سيما إذا عجزت قواها الاقتصادية عن أن تكون مظلة لأحلامها، وربما أوهامها العسكرية حول العالم.