إميل أمين
كاتب مصري
TT

شرقاً وغرباً... المملكة تعزز حضورها

المتابِع الجيِّد للتحركات السعودية على الساحة الدولية، خصوصاً في ضوء زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز إلى دول الشرق الأقصى، لا سيما اليابان والصين، وفي الوقت ذاته زيارة ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة، يُدرِك أن هناك رؤية عميقة واستراتيجية واسعة وهادفة لصنَّاع القرار في السعودية، تتصل بمستقبل المملكة وشعبها، وكذا الخليج العربي وأمنه وأمانه، عطفاً على الشرق الأوسط الملتهب حتى الساعة وإلى إشعار آخر.
قطعاً إنها فلسفة «ضبط المسافات» في «الوقت القيم» بين القوى المؤثرة عالمياً، وليسَتْ مسألةَ «لعب على المتناقضات»، كما يُخيَّل للمرجفين، ومروِّجي الشائعات، والكارهين للنجاح والفلاح.
ما يحدث في المملكة اليوم هو ضرب من ضروب طَرْح القضايا التي تبدأ من الذات، وليس من الآخرين، وسرّ المملكة الحقيقي يتلخص في الكلمات التي أسَرَّ بها الملك سلمان لحاكمة طوكيو يوريكو كويكي: «وضع الناس أولاً، والاستماع إليهم بشكل دائم، والاهتمام بكل من التعليم والمرأة والبيئة».
نهضة الداخل السعودي تعزز الثقة في النفس وتعطي الزخم لتفعيل دور المملكة وتعزيزه دولياً، عبر الإفادة والاستفادة، فالذي تملكه المملكة يتجاوز اليوم النفط... إنها تقدِّم الرؤية والأمل، وتفتح الباب واسعاً أمام الاستقرار السياسي والاقتصادي في الشرق الأوسط، وخلق توازنات سياسية مهمة وفاعلة، في أوقات تسعى فيها قوى بعينها لبسط هيمنَتِها وفرض سيادتها عبر تصدير أفكار ثورية مغلوطة ومذمومة.
يستلفت النظر في التحركات السعودية الأخيرة الاهتمام بالشرق الآسيوي، حيث التجارب الرائدة التي بلغت من النجاحات حداً أنها استطاعت أن تتجاوز حدود الجغرافيا والإقليم الذي أنتجت فيه إلى آفاق أوسع، ووصلت للعالم كلِّه لاحقاً، من ماليزيا، مروراً بإندونيسيا، وسنغافورة، ثم الصين؛ القصة الكبرى للقرن الحادي والعشرين.
الذين تابعوا الاستقبال الذي حظي به الملك سلمان في اليابان، والاهتمام الواضح بشخص الضيف الكبير، يدركون أن الحضور الروحي والأخلاقي للمملكة، وَرَقة سياسية مهمة على مائدة الأمم، وأنه حان الوقت لأن تُمارِس المملكة دورَها بوصفها رقماً صعباً في المعادلة الدولية. وبالقدر نفسه يمكن للعالم العربي، والمملكة في القلب منه، أن يعبَّ ما شاء له أن يعِبّ من تجربة اليابان المثيرة، لا سيما أننا، عربياً، وحتى الساعة، نعيش أزمة التمزُّق بين التحديث Modernization والتغريب أي الـWesternization وقد رسخ لدينا طويلاً أن التحديث هو صنو للتغريب.
قامت نهضة اليابان على ركيزتين أساسيتين:
الأولى: أن اليابانيين انضوَوْا جميعاً تحت حماية الإمبراطور دون أن ينبهروا بحضارة الغرب القوي، ولا بعظمة قوته، وكانت وحدتهم هي السلاح الذي جَرَّدوه في وجه مؤامرات الآخر، وهنا تتشابه الفكرة مع ما لدى المجتمعات العربية من فكرة الأبوية البطريركية بالمعنى الإيجابي التراثي الخلاق.
والثانية: رؤية اليابان لما وراء البحار والمحيطات؛ إذ أرسلت البعثات إلى الشرق والغرب، إلى العرب والأوروبيين، لتبدأ من حيث انتهى الآخرون، وهنا نرى تشابهاً واضحاً مع «رؤية المملكة 2030»، وما يمكن أن نسمِّيَه سرّ الخلطة العجيبة للصحوة السعودية القائمة والمقبلة.
الاهتمام بالشرق لا يعني إغفال التجربة الغربية، رغم جميع المآخذ التي عليها، ذلك أنها تبقى حتى الساعة حاضرة وفاعلة ونافذة بقوة، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
في هذا الإطار ينظر المرء لزيارة الأمير محمد بن سلمان لواشنطن بعين ثاقبة، ليرى توازناً سعودياً بين الشرق والغرب، لا تُخطِئه العين، وبحيث تصبّ المصلحة الاستراتيجية في نهاية المشهد في خانة المواطن السعودي والعربي في منطقة هائجة صباحاً مائجة ليلاً.
لقاء الأمير محمد بن سلمان مع الرئيس ترمب يشكِّل فرصة جيدة لفهم أوضح للطرفين، والمشترك بين واشنطن والرياض ليس وليد اليوم، إنه يتجاوز عقوداً طوالاً، وأدواراً ظاهرة وباطنة، تعاوَن فيها البلدان، وأعداء مشتركون في الماضي، وتحديات تلوح في الأفق حاضراً ومستقبلاً. بقدر ما يهتم الرئيس ترمب بمحاربة الإرهاب هدفاً أولياً لإدارته الجديدة، تمضي المملكة اليوم وبعزم لا يلين في طريق مجابهة «طرق الإثم ودروب الكراهية»، عطفاً على ملفات اقتصادية وتجارية تثري البلدين، وتفتح الطريق لتعايُش إنساني، يكون حاجزاً وحائلاً أمام دعوات الصدام العقائدي، ومنطلقات الخصام العرقي بين الأمم والشعوب.
يمكننا أن نوجِّه انتقادات كثيرة لسياسات إدارات أميركية سابقة، لكننا بأي حال من الأحوال لا يمكن أن نبخَس التجربة الأميركية وجهها المضيء، فأميركا ليست دولة استعمارية قديمة تُوجَّه لها السهام، رغم تجربتَيْ أفغانستان والعراق، ذلك أن لديها من القوة الناعمة ما كَفَل لها كثيراً أن تنادي بأنها «مدينة فوق جبل»، عطفاً على ذلك، فإن إبداع التجربة الاقتصادية الأميركية يتأتى من كونها اقتصادَ ابتكار وليست اقتصادَ استنساخٍ كلاسيكيٍّ، كما الحال مع اقتصاد الصين.
التجربتان العلمية والتعليمية الأميركية فيهما كثير من الجوانب الخلاقة، والدرس الذي نتعلمه منهما يتصل بموازنات البحث العلمي التي بلغت 627 مليار دولار، والحديث يطول. لا يهمنا لمن سيكون القرن الحادي والعشرون؛ آسيوياً أم أميركياً؟ ما يهمنا كيفية تعظيم الاستفادة من الطرفين ومحاكاة التجارب الناجحة، وخلطها بالطروحات والقيم الوطنية، وصهر الجميع في سبيكة عربية - عربية من أجل أجيال المستقبل، ودون الدخول في مخاطر الانحياز لأي معسكر.
رحلات الملك سلمان وولي ولي العهد نوع من أنواع الاستجابة الذاتية الخلاقة لنداءات المستقبل، تلك التي تعمِّق حضور المملكة عربياً وعالمياً، وتبشِّر بفجر سياسة ودبلوماسية قائدة ورائدة عربياً وإسلامياً.