محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

العداء للسامية والعداء للإسلام

النظام البريطاني قديم وله خبرة طويلة في العمل السياسي، البعض يراها أنها خبرة الإنجليز وحذرهم، لذلك لم يتسرعوا في اتهام الإسلام أو المسلمين في الحدث (الإرهابي) الذي وقع الأسبوع الماضي أمام برلمان المملكة المتحدة، وهو من أقدم البرلمانات وربما أهمها في العمل الديمقراطي الحديث، قالوا في البداية إنه عمل إرهابي كتوصيف، ولكنهم في النهاية أكدوا أنه ليس له علاقة (بالإرهاب الإسلامي) كما عرف، فخالد مسعود (الاسم الذي اتخذه المنفذ) كان معروفاً في سجل المجرمين ودخل السجن من قبل، وقد أدين أكثر من مرة. قبل ذلك بأسابيع وفي 18 مارس (آذار) قتل شخص يدعى زياد بلقاسم في مطار أورلي الفرنسي، وكان مطارداً من الشرطة، وقيل من جديد إنه (إرهابي مسلم) رغم أنه بعد تشريح الجثة وجد أنه مخمور ومتعاطٍ، ووالده أقر للصحافيين أنه يتعاطى الخمر ولم يعرف الصلاة في حياته! بالطبع الجماعة الإرهابية سواء كانت في الرقة أو الموصل تستمع إلى الأخبار وتشاهد التلفزيون، وما أن تسمع بحدث إجرامي في أوروبا أو أي مكان آخر، إلا وقالت إنها خلفه وإن المنفذ من (الخلايا النائمة)! ذلك موسيقى في أذن المتعصبين وأيضاً الجهلاء، فسرعان ما تنداح التحليلات المعمقة عن (الإرهاب الإسلامي) دون دراية أو تمحيص، ليس منا من يدافع عن الإرهاب، ولكن الدفاع يجب أن يتم عن العقل الرشيد.
المسلمون هم مليار من البشر، والإسلام كدين ينتشر في القارات الخمس، فكيف عقلاً أن يعزى عمل مجموعة صغيرة من الناس إلى إدانة كل تلك الملايين من البشر. دعونا ننظر إلى ملف آخر، فالموسوعة البريطانية في طبعاتها الأولى وتحت عنوان عام (الإرهاب في الشرق الأوسط) تتحدث حصراً عن إرهاب العصابات الإسرائيلية في النصف الثاني من الأربعينات في القرن الماضي، لأنها عصابات كانت ترهب العرب والمحتل البريطاني لفلسطين وقتها.
في 30 مارس 1981 وفي الأشهر الأولى لبداية ولاية رونالد ريغان، تمت محاولة لاغتياله خلال خروجه من فندق هيلتون في العاصمة الأميركية، لم يتحدث أحد عن الإرهاب وقتها، لأن (الإسلاموفوبيا) لم تظهر كمصطلح لتخويف الناس منها. جون هكلي جونيور الذي حاول الاغتيال أودع بعد ذلك مصحاً عقلياً، لأنه ببساطة (مختل العقل). اليوم الحديث السلبي أو الاتهامي في أي بلاد صناعية كبرى غربية أو شرقية عن السامية، أي توصيف اليهود بصفات سلبية، يعتبر مجرّماً، بل والحديث العام عن اليهودية واليهود يمكن تفسيره بأنه (عداء) للسامية، التي بالمناسبة ينتمي إليها العرب أيضاً، ويمكن أن يدفع قائله إلى السجن في نهاية المطاف، لذلك حتى الأعمال السياسية التي تنتقد إسرائيل يحاذر فيها من الانزلاق لعداء السامية، ليس في ذلك ضرر، إنما المطلوب أيضاً مساواة ذلك بالتعميم على اتهام المسلمين المعروف اليوم بالإسلاموفوبيا، وهو مصطلح بدئ في استخدامه من منتصف التسعينات من القرن الماضي، بعد أن أشارت إليه كتابات مؤسسة أهلية بريطانية رأسها مسلم هو نائب رئيس جامعة سسكس البريطانية، والفكرة في المصطلح هي (التحامل على، والخوف من، والحُكم المسبق على المسلمين) أو الإنتاج الاجتماعي للخوف بشكل عام موجه للمسلمين جميعاً، وهو شكل من أشكال العنصرية لا تخطئه الملاحظة، كونه يصنف الإسلام قاطبة باعتباره قوة سياسية عنيفة لا معتقداً دينياً. وهو رهاب غير عقلاني بدأ ينتشر بسرعة في الأوساط السياسية الغربية، انتهى بمنع بعض المسلمين فقط كمسلمين من دخول بلدان غربية، بل أصبح الاسم والشكل دليلاً على احتمال (إرهاب) من نوع ما، يخضع صاحبه للشك وربما الملاحقة. كما قامت أحزاب وحركات اجتماعية غربية على استثمار هذا التخويف لتحقيق مكاسب سياسية، كما حصل في هولندا ويتم إنتاج مثله في فرنسا اليوم! وهو يكرر بشكل يماثل اضطهاد الساميين قبيل وإبان الحرب العالمية الثانية في أوروبا، فإن كانت السامية اليوم مذمومة، وجب أن يكون الموقف السلبي من الإسلام كدين والمسلمين كبشر أيضاً مذموماً، ولا يؤخذ الكل حكماً بجريرة الجزء المنبوذ من المسلمين أنفسهم.
لا بد من الإشارة إلى مستويين يجب معالجتهما؛ الأول أن هناك عدداً من المجرمين أصحاب السوابق في دول كثيرة غربية يستفيد أو ينتهز (الإسلاموفوبيا) من أجل تحقيق عمل انتقامي يشعر، حقاً أو باطلاً، بأن مظلمة ما وقعت عليه، هذا المستوى الأول على السلطات أن تحذر من التعميم حوله أو نسبته إلى المسلمين، كما فعلت السلطة البريطانية التي أكدت أن البريطاني (خالد مسعود) واسمه للمفارقة متشابه مع اسم المصري (خالد سعيد) الذي قتل لسبب ما في قسم الشرطة، ثم تحول إلى أيقونة ثورة يناير المصرية عام 2011 أو على الأقل جزء منها! ما أرمي إليه هو أن هناك مشكلات حياتية تفرزها الأوضاع السياسية/ الاقتصادية/ الاجتماعية في مدن الغرب تنتج في مكان ما (مجرمين) وخارجين على القانون ينتهزون هذه الضجة الدولية حول الإرهاب لتنفيذ أعمالهم الإجرامية، العلاج هو بالنظر إلى أسباب تلك المشكلات التي تتفاقم في المدن الغربية، وحل أكبر عدد منها، لا التوجه إلى لوم (الإسلام) و(المسلمين) وهما مفهومان مختلفان أولاً، كما ليس لهما علاقة بما يحدث في المدن الغربية!
أما المستوى الثاني فهو الجماعات الإرهابية في بلاد المشرق، وهي اليوم تتركز في كل من العراق وسوريا، واليمن ولكن ليس وحدها، وهي ظاهرة ناتجة جزئياً من فشل الدولة الوطنية في مواجهة متطلبات المواطنة، أي أن الظاهرة نتاج بشكل عام الدولة البوليسية مندمجة مع الفساد، التي ضيقت على الناس حرياتهم وأرزاقهم، وأصبحت تتابع أنفاسهم ومصالحهم وتضعها في دوائر ضيقة يحاصرها الاضطهاد ونقص الحريات وكذلك التدخل الخارجي، وخاصة الإيراني وزاد عليه الروسي في السنوات الأخيرة، وهو تحكم في البشر والأوطان، لكنها ظاهرة مؤقتة لا يجوز عقلاً ربطها بشكل مباشر ودائم بعقيدة يؤمن بها أكثر من مليار من البشر، أغلبهم المطلق مسالمون وأبرياء من الفعل الإرهابي!
هناك ظاهرة تتفشى في الغرب يمكن توصيفها بأنها (فقدان ذاكرة إرادي) لتحميل المسلمين كل هذا العبء الأخلاقي الناتج عن عمليات إرهابية عمياء، وجمع الإسلام مع الإرهاب عنوة، ونسيان (إرادي) عن تحليل الظاهرة التي وجدت في عدد من المجتمعات في أوقات مختلفة، ويساعد هذا التوجه إلى استفحال الدولة البوليسية لأنها كما يبرر البعض ضرورة لمحاربة الإرهاب! وهي في الحقيقة سببه! كما يبقى غير عابئ بآلاف القتلى والمشردين والمهجرين في أصقاع الدنيا، الذين يمكن في وقت ما انضمام بعضهم إلى جماعات الإرهاب! لا بد إذن من إعادة الذاكرة إلى الضمير الإنساني أن الظاهرة التي تملأون بها إعلامكم ضجيجاً لها أسباب موضوعية من صنعكم أو صنع حلفائكم، كما أنها لا يمكن أن تكون دائمة ومرتبطة بدين سماوي، هي مرتبطة بظروف سياسية واقتصادية تزول وتضمحل بزوالها، فالإسلام له اليوم خمسة عشر قرناً، شهد فيها الانتصارات كما شهد التشدد، إلا أنه بقي صلباً يقاوم عوامل الإضعاف، وينفذ دائماً من شراك التشدد ويشترك في الكثير من مبادئه مع المبادئ الإنسانية التي ارتضتها البشرية لنفسها.
آخر الكلام:
إحالة المشكلات الاقتصادية والسياسية المنبعثة من المدن الصناعية الغربية، ومشكلات عدم استيعاب المهاجرين إلى اتهام عقائدي هو خلل في التحليل بدأ البعض في الغرب ينبه إليه، إلا أن هذا الانتباه محصور في دوائر أكاديمية حتى الآن!